أتيتُ إلى الحجاز فقلتُ لمّا ... تَبدّى وجههُ لي وارتويتُ
وكم في الأرضِ من وجهٍ مليحٍ ... ولكن مثلَ وجهكَ ما رأيتُ
[الأزلم]
ثم ارتحلنا منه ونزحنا عنه، حتى أتينا على الأزلم وتحملنا المشقة والألم، وهو وادٍ فيه قلعة يودع فيها ودائع الحاج للرجعة، وخان خراب كان قد بناه الناصر، فهدمه الغوري، والأمر دائر بيّن هدم وبناء، لا الباني يكل ولا الهادم يمل، يا حيرتي ما أعجب ما قال:
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
وماء هذا الوادي مرّ يكاد يفطر الأكباد، وهو كثير السنا، ونصف الطريق من مكة المشرفة، ومنه إلى الينبع ربع ثالث، وبينه وبين الوجه فضاء بين جبل يقال له اصطبل عنتر، ووادٍ آخر يسمّى السماق والدخاخين وهو كثير الشوك والحطب. ومما قيل في الأزلم:
الأزلم المشهور قُبِّح ذكره ... لم تصف عيشة مَن بِواديه ألمّ
ما زال عن قلب مرارة مائه ... إلا وأهدى من قساوته ألم
المُوَيْلِح
ثم لم نزل نجوب البوادي، ونقطع الفدافد خلف الدليل والحادي، حتى أتينا على المُوَيْلِح، ولا أدري أهو مشتقٌ من الملاحة أم الملوحة، أم الحال كما قال: ذاتٌ لها في نفسها وجهان. وبالجملة فهو ساحل رَاقَ ماؤه وصفا، وطاب به العيش حتى كأنَّه ما ذاق طعم الجفا، قد اخضرّت جوانب بقاعِه، وتحقق لدى روضه ما نسخه الورد الذكيّ برقاعه، فأقمنا به ثلاثة أيام تحت البواسق، ونَشْرُ تلك الرياض العبيرية عابق، نهارنا على الماء والخضرة والوجه الحسن، وليلنا على ارتشاف كؤوس الآداب ونفي الوسن، حتى انقضت تلك الليالي كأنَّها سِنَةٌ، وقلنا في نفوسنا
هذه أول مسرات هذه السَّنة، فلله هاتيك الأيام، وما اشتملت عليه من الجمع التام، واتفق