غمرت تلك العيون وصاروا يقنعون بالحفائر، فأشار ناظر الجيش لَمَّا حَجّ بحفر البئر فخرج ماؤها عذباً فُراتاً، انتهى كلامه. قلت: وقد أجرى الله تعالى عوائد برّه وعاد الماء إلى مجاريه.
[مغاير شعيب]
ثم قمنا منه حتى أتينا على مغاير شعيب عليه السلام، وهي حفائر حلوة تحكي النيل فيما قيل، في وادٍ فيه نخل وأثلٍ ومقل، بين جبال متضايقة كثيرة المخاوف، وفيه بئر دارسة وأبنية متهدمة ورسوم يقال إنها مدين.
قال صاحب تقويم البلدان: مدين على شاطئ بحر القلزم، وهي خراب. وأما البئر التي استقى منها موسى عليه السلام فقد بني على أفنيتها بيت من صخر، فيه كهف يسمى كهف شعيب عليه السلام، وكانت تأوي إليها غنمه، وحولها قبور منقورة في الصخر فيها عظام بالية كأمثال عظام الإبل. ولا أثر لذلك الآن غير تلك الساقية التي بيد بني عطيفة، وحفر الماء العذب. وفيها يقول ابن أبي حجلة:
ولما وردنا ماء مَدْيَنَ بُكرةً ... وجدتُ عليه الناسَ يسقون بالقِرَبِ
فأطرب حادي الراقصاتِ مسامعي ... كما أطربَ التشبيبُ من أعينِ القصبِ
ثم لم نزل نجوب الوهاد، ونقطع هاتيك البواد، حتى أشرفنا على شرفة بني عطيفة. وهي في وادٍ قفر كثير الحطب ممحل، لا يكاد يمرّ به الطير، إتفق أنه لم يكن في الركب إلا من إشتكى الظمأ، إلا من كان في حظيرة إن هو إلا عبدٌ أنعمنا عليه. ومما قيل فيه:
وقد حللنا بواد لا أنيس به ... بنو عطيفة قد سموه بالشَََرِفَه
فنالنا منه بعد العيّ أربعةٌ ... بردٌ وخوفٌ ظما والريحُ مختلفه
ذكرت بهذه المشقة قول ابن الحاجب:
من ذا الذي تصفو له أوقاته ... طراً ويبلغ كلّ ما يختار
والمرء في سفر وأي مسافرٍ ... لا يعتريه من الطريق غبار
ثم لم نزل في أسر المسير ومشتاق الأسفار، حتى مررنا بظهر الحمار، وهو محجر صعب، وحفائر الغنم وفيها المياه الكّدرة، والنخل الكثير، والدار الحمرا، وما أدراك ما الحمرا!!
ولقد أرى بين المسمّى واسمه ... نسباً قد استغنى عن التبيينِ