[معنى الأحاديث التي تشير إلى استخلاف الصديق]
وهنا وقفة
و
السؤال
هل كانت كل هذه الإشارات والمواقف والأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط لحفظ حق الصديق رضي الله عنه وأرضاه في الخلافة، أم أن مصلحة المسلمين الفعلية تقتضي في المقام الأول أن يكون الصديق هو الخليفة؟ والإجابة على هذا الأمر هي: أن الأمرين معاً كانا مقصودين: الأمر الأول: حفظ حق الصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ لفضله ومكانته وقدراته وكفاءاته، ولا يجب أن يولى غيره في وجوده.
الأمر الثاني وهو الهام جداً: أن مصلحة المسلمين الفعلية كانت في استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه دون غيره من الناس.
فكان اختيار الصديق خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة بالأمة ومصلحة كبرى لها؛ وذلك لأسباب عديدة أذكر منها ثلاثة: أولاً: تحتاج الأمة أن تسير في نظام هو أشبه ما يكون بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن التغيير في نمط الحياة في الإدارة والمعاملة قد يؤدي بالأمة إلى هاوية خطيرة، فحتى إن كان الشرع يسمح بآراء متعددة في قضية معينة فإن الانتقال من حياة معينة إلى حياة مختلفة يسبب الاضطراب عند الناس والتخبط وعدم توقع خطوات المستقبل، فـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه لطول صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولقدم العشرة من أول ما نزلت الرسالة على الرسول صلى الله عليه وسلم ومروراً بفترة مكة والهجرة وكل المشاهد والغزوات في المدينة لكل هذا كان يعرف كل دقائق حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كثير الدخول عليه في بيته.
وبالذات أن ابنته السيدة عائشة رضي الله عنها هي إحدى زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حب الرسول صلى الله عليه وسلم سبباً في كثرة اللقاءات بينهما، حتى إنه كثيراً ما كان يذهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العشاء ليتبادل معه الرأي والمشورة في أمور كثيرة، هذا الاختلاط الكبير برسول الله صلى الله عليه وسلم أطلع الصديق رضي الله عنه وأرضاه على أمور كثيرة ما اطلع عليها غيره.
ولذلك فقد كان يعلم ما لا يعلمه كثير من الصحابة الأجلاء، وفوق هذا الاطلاع على حياة الرسول عليه الصلاة والسلام فإن الصديق قد تميز برغبة شديدة في اتباع خطوات رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتفاء آثاره قدر الوسع، ونحن تكلمنا في درس كامل عن اتباع الصديق رضي الله عنه وأرضاه لخطوات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الصديق امتلك الرغبة في الاتباع، وامتلك العلم الذي يؤدي هذه الرغبة، ومن ثم كانت حياته رضي الله عنه وأرضاه تطبيقاً كاملاً لما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم، ولاشك أن هذا كان رحمة بالأمة.
الأمر الثاني: كان اختيار الصديق رضي الله عنه وأرضاه خليفة للأمة فيه مصلحة كبيرة أخرى وهي أن الأمة قد خرجت من مصيبة هائلة وكارثة مروعة وهي مصيبة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكارثة انقطاع الوحي، فتحتاج الأمة في هذه المصيبة إلى الرحمة لا الشدة، وإلى الرفق لا العنف، ومن أرحم بالأمة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم من الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ لا نقول نحن ذلك بل قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، روى الإمام أحمد والترمذي وأبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر)، فرحمة الله عز وجل بهذه الأمة اقتضت أن يتولى أمورها أرحمها وهو الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
الأمر الثالث: كانت مصلحة المسلمين تقتضي أيضاً أن يتولى أمورها أشد الناس ثباتاً وأرسخهم قدماً فمن المؤكد أن الدولة ستواجه أهوالاً عظاماً وتحديات جسيمة، ومن المؤكد أن كثيراً من التجمعات والأفراد سيطمعون في الأمة الإسلامية بعد وفاة رسولها صلى الله عليه وسلم، فمن يقود السفينة في الأمواج المتلاطمة؟ ومن أشد الصحابة ثباتاً وعزيمة؟ ومن أكثرهم يقيناً في وعد الله بالنصر؟ ومن أعظم الصحابة غيرة على الدين؟ إنه الصديق ولاشك في ذلك.
فقد ظهر ثباته من أول يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظل ثابتاً في كل المواقف والمشاهد والأهوال، وظل ثابتاً في الردة، وظل ثابتاً أمام فارس، وظل ثابتاً أمام الروم، ما لانت له عزيمة وما اهتز له جفن.
روى البيهقي بسند صحيح -كما ذكر ابن كثير رحمه الله- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: والله! الذي لا إله إلا هو لولا أبو بكر استخلف ما عبد الله، ثم قالها الثانية، ثم قالها الثالثة، يعني: كرر نفس الجملة ثلاث مرات، فقيل له: مه يا أبا هريرة؟! ومه كلمة تقال للزجر عن الشيء، يعني: أكثرت، وكفاك ما قلته، إنه لقول عجيب، فأخذ أبو هر