للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الفتن التي كانت تحيط بالمدينة النبوية بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم]

أضف إلى هذا كثرة المنافقين بالمدينة المنورة، فإنه منذ أقل من عامين كانت هناك أعداد ضخمة من المنافقين يسكنون المدينة أيام تبوك، ولا شك أنهم يتزايدون مع زيادة قوة الإسلام، ولا شك أنهم ينتظرون الفرصة للانقلاب على الإسلام والمسلمين، وقد أرادوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ولكنهم فشلوا، وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وهذه مصيبة عظيمة، ولا شك أن سعادتهم بهذه المصيبة كبيرة، قال عز وجل: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:٥٠].

فيا ترى ماذا سيفعل المنافقون؟ سؤال يتردد في أذهان الصحابة ولا شك.

ثم هل هذا هو كل الشر الذي يتربص بالمدينة؟ أبداً، فكم من الأعداء يتربص؟ وكم من الكارهين يترقب؟ فالفرس دولة عظمى مجاورة، وقد كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ملكها كسرى مراسلات يعرض فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه الإسلام، لكن أبى كسرى فارس، بل ومزق رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضم إلى دولة المسلمين قبل أن يموت منطقة اليمن وكانت تتبع دولة فارس، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق ذلك أدخل في الإسلام حكام اليمن الفارسيين وانتزع من كسرى فارس هذه المنطقة وأهلها، فيا ترى ماذا سيفعل كسرى فارس بعد هذه المصيبة التي حلت على المسلمين؟ أتراه يعيد الكرة في احتلال اليمن؟ أم يفكر فيما هو أبعد من ذلك ويغزو المدينة ومكة؟ أسئلة بلا إجابة.

وهكذا الروم الدولة العظمى الأخرى على الساحة العالمية في ذلك الزمن كانت تحتل كامل الشام وآسيا الصغرى، بالإضافة إلى شرق أوروبا بكاملة إنها دولة ضخمة مهولة على رأسها قيصر الروم هرقل، ودولة الروم العظمى لها تاريخ مع دولة الإسلام الناشئة في المدينة.

وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، وهرقل مال قلبه إلى الإسلام لكن منعه قومه ودفعوه إلى الكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا فقط، بل دفعوه أيضاً إلى تحريض قبائل غسان العربية في الشام على المسلمين ومن ثم قتل بعض رسل المسلمين المبعوث إلى تلك المناطق، وغرق بذلك هرقل في مستنقع الكفر، وهكذا بطانة السوء ومن رضي ببطانة السوء.

ونتيجة هذا الإعراض عن الرسالة وهذا التحرش بالمسلمين نتجت موقعتان بين المسلمين والروم، نتجت معركة مؤتة في سنة (٨) من الهجرة، وهذه كانت معركة عجيبة ثبت فيها المسلمون بثلاثة آلاف مقاتل أمام (٢٠٠.

٠٠٠) من الروم المقاتلين، وقتل من المسلمين زعماؤهم الثلاثة.

ثم استطاع خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه بتكتيك رائع أن ينسحب بجيشه دون هزيمة من الروم، بل إن التحليل الصادق للمعركة يثبت فرار الروم وخشيتهم من الجيش الإسلامي، وما حدث من فرار لبعض المسلمين حتى وصلوا إلى المدينة لم يكن إلا من طائفة محدودة.

لكن بصرف النظر عن أي شيء فقد تراءى للروم ثبات المسلمين وخطورتهم، وعلموا أن بأسهم شديد وقتالهم شرس.

ومرت سنة واحدة على مؤتة وجاء ما هو أعظم، فحشد المسلمون ثلاثين ألفاً من المقاتلين الأشداء في غزوة تبوك العظيمة سنة (٩) من الهجرة، ومع قلة إمكانيات المسلمين المادية من سلاح ومؤنة إلا أن معنويات الجيش كانت مرتفعة جداً، وتحركت الجموع الإسلامية إلى مسافات بعيدة جداً عن المدينة دونما وجل ولا خوف، وفر الجيش الروماني وأعوانه من نصارى الشام العرب أمام الجيش الإسلامي.

ولا شك أيضاً أن الرومان قد سمعوا بأنباء بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما والذي جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بقليل حتى يغزو الشام ويقاتل الروم والقبائل المناصرة لها، ولا شك أنهم يعلمون أن الجيش الإسلامي ما زال رابضاً في المدينة بعد خبر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا سيكون رد فعل الرومان والقبائل المتحالفة معهم أمام هذا الحدث؟ أتراهم يستغلون الفرصة ويهاجمون المدينة حيث إن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم؟ هل يستغلون انشغال المسلمين بالمصيبة الكبيرة ويحالفون عدداً أكبر من القبائل ويحاصرون الجيش الإسلامي في المدينة قبل خروجه؟ أم تراهم سينقلبون على القبائل المسلمة في شمال الجزيرة العربية؟ لا شك أن الروم سيتربصون بالمسلمين، وجذور العلاقة توحي بأن ذلك سيكون قريباً، فكيف يتعامل المسلمون مع هذا التوقع؟ سؤال يحتاج إلى إجابة.

واليهود ماذا سيكون رد فعلهم بعد أن يعلموا بخبر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن جذور العداء تاريخية مع اليهود، ومن أول يوم سمعوا فيه بأمر الرسالة وهم يكيدون لها، وحاولوا من قبل قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلوبهم تغلي بالحقد على المسلمين، وكراهيتهم للإسلام والمسلمين ثابتة في كتاب الله، وستظل الكراهية موجودة بين الفريقين إلى يوم القيامة،

<<  <  ج: ص:  >  >>