[سبق الصديق إلى الدعوة إلى الله عز وجل]
وسبحان الله يا إخوة! إن كان عجيباً سبق الصديق إلى الإسلام، وإلى الإيمان، فلعل الأعجب من ذلك: سبقه إلى الدعوة إلى هذا الدين، وحماسته لنشره، وحميته لجمع الأنصار له، وسرعته في تبليغ ما علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قلة ما علمه في ذلك الوقت.
وبعضنا يعتقد أنه محتاج لعلم غزير جداً حتى يتحرك في مجال الدعوة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بلغوا عني ولو آية) فسبق الصديق إلى الدعوة لهذا الدين الجديد، فإذا به يأتي في اليوم الأول من دعوته بمجموعة من الرجال قل أن يجتمعوا في زمان واحد، الرجل منهم بألف رجل والله! أو يزيد، أتى في اليوم الأول بخمسة، أتى بـ عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، هؤلاء الخمسة صناديد الإسلام وعباقرة الإسلام أتوا جميعاً على يد الصديق، وهذا الحدث عظيم لا يحتاج إلى وقفات، وبتحليل إسلام هؤلاء الخمسة يزداد المرء عجباً أكثر! أولاً: ليس من هؤلاء أحد من قبيلته بني تيم إلا طلحة بن عبيد الله فقط، وبقيتهم من قبائل أخرى، فـ عثمان بن عفان أموي من بني أمية، والزبير بن العوام من بني أسد، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، فالاستجابة له لم تكن من باب القبلية، ولكن كما هو واضح كانت له صداقات قوية، وعلاقات وطيدة في كثير من أركان المجتمع المكي قبل الإسلام، وهذا لاشك أساس رئيسي من أسس الدعوة.
ثانياً: أعمار هذه المجموعة كانت صغيرة جداً وبعيدة عن عمر الصديق، فـ الصديق كان عمره (٣٨) سنة، والزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه كان في الخامسة عشرة من عمره، ومع ذلك لم يستصغره أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأسر بهذا السر الخطير -سر دعوة الإسلام- في بلد لا محالة ستحارب هذه الدعوة.
فـ الزبير بن العوام أخذ قرار الإسلام وقرار تغيير الدين ومحاربة أهل مكة جميعاً وهو في سن الخامسة عشرة، ويبدو أن تربيتنا لأطفالنا تحتاج إلى إعادة نظر، فكثير منا يعتقد أن ابنه الذي في الجامعة أو بعد الجامعة لا يزال صغيراً ما يقدر أن يتحمل المسئولية ولا يقدر أن يتخذ قراراً، فـ الزبير بن العوام أسلم وعمره (١٥) سنة.
وطلحة بن عبيد الله كان أكبر من ذلك قليلاً، يعني: كان عمره حوالي (١٦) سنة.
وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه كان في السابعة عشرة من عمره، وقد يظن البعض أن سعد بن أبي وقاص كان حينئذ رجلاً كبيراً ابيض شعره.
وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه كان نحو ذلك أيضاً، وكان أكبرهم عثمان بن عفان كان عمره (٢٨) سنة.
إذاً: أبو بكر الصديق قبل الإسلام كانت له علاقات طيبة كثيرة مع كل طوائف مكة على اختلاف قبائلها، وعلى تفاوت أعمارها، وعندما فكر رضي الله عنه في تبليغ الدعوة بلغها للشباب من أهل مكة، وبالذات لأولئك الذين اشتهروا بالطهر والعفاف وحسن السيرة، وكان لهم رضي الله عنهم وأرضاهم بمثابة الأستاذ للتلميذ، فسمعوا له واستجابوا فكان خيراً له ولهم، وللإسلام والمسلمين، وهذه إشارة لكل الدعاة أن يعطوا قدراً كبيراً واهتماماً عظيماً للشباب؛ فعلى أكتاف الشباب تقوم الدعوات.
ثالثاً: بعد أن أتى بهذا الرعيل الأول وهذا المجهود الوافر ما فتر حماسه، وما كلت عزيمته، ولكنه أسرع في الأيام التالية يأتي بغيرهم.
وفي اليوم الثاني أتى بـ أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه أمين هذه الأمة، وهو من بني الحارث بن فهر، وكان عمره (٢٧) سنة.
وأيضاً في نفس اليوم جاء بـ عثمان بن مظعون وهو من بني جمح، ثم في اليوم الثالث أتى باثنين في منتهى الغرابة، وهما: الأرقم بن أبي الأرقم، وأبو سلمة بن عبد الأسد وهذه الغرابة أنهما من بني مخزوم، وبنو مخزوم قبيلة كانت تتنازع لواء الشرف مع بني هاشم قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف أثر عليهما الصديق رضي الله عنه وأرضاه حتى أتى بهما يدخلان في الإسلام تحت قيادة رجل من بني هاشم؟ هذا أمر لافت للنظر، ولاشك من الواضح الجلي أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان قريباً من قلوبهم إلى درجة هي أقرب من القبلية والعنصرية والعصبية وحمية الجاهلية وغير ذلك من الدوافع المنتشرة في ذلك الزمان.
والأرقم بن أبي الأرقم الذي أتى به الصديق هو الذي فتح بعد ذلك بقليل بيته للمسلمين كما تعلمون، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدون فيه لقاءاتهم، ويتعلمون فيه دينهم، بعيداً من أهل مكة،