وفتنة أخرى عظيمة هائلة تعرض لها الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهي فتنة ضياع النفس وفتنة الإيذاء للنفس، والنفس غالية إن ذهبت فلا عود لها إلى يوم القيامة، لكن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان واضح الرؤية وثاقب النظر له قواعد ثابتة تحكم حياته، من هذه القواعد:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}[التوبة:٥١].
ومن هذه القواعد:{لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ}[يونس:٤٩].
ومن هذه القواعد:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التوبة:١١١].
ومن هذه القواعد:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}[الحج:٧٨].
إذا نظرت إلى هذه القواعد مجتمعة أدركت جانباً لا بأس به من حياة الصديق، وتعالوا نستمتع بوقفات مع الصديق رضي الله عنه وأرضاه لنرقب كيف خلصت نفسه من حفظ نفسه.
وقد تكلمنا قبل على ثبات الصديق في مكة ودفاعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كاد أن يفقد روحه، وتعالوا نرى بعض أنواع الثبات في حياة الصديق في المدينة المنورة في قضية النفس، ففي بدر مثلاً: لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم نجاة قافلة أبي سفيان وعزم زعماء مكة على قتاله استشار الصحابة في هذا الموقف الخطير، والصحابة لم يخرجوا من المدينة ليقابلوا جيشاً، بل مجرد قافلة، فليس معهم إلا السيوف، ولم تكن العدة عدة قتال، كما أن هناك أقواماً بالمدينة كانوا يرغبون في اللقاء ولكن لم يعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيقاتل.
إذاً: من الممكن أن يأتي على ذهن الصحابة أن لو أجلنا القتال لنقوم به في ظروف أفضل وعدد أكبر لكان أفضل؛ ففرصة ضياع الحياة في هذه المعركة كبيرة، والحق أن بعض الصحابة ترددوا، يصورهم ربنا في كتابه الكريم فيقول:{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ}[الأنفال:٥ - ٦]، فأين كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه في هذا الموقف؟ كان أول الرجال قياماً يشجع النبي صلى الله عليه وسلم على القتال؛ فقد كان دائماً يسبق الناس حتى لو كان السبق لفقد الحياة.
قام الصديق فقال وأحسن وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام من بعده الرجال الواحد تلو الآخر، لكن سبق بها الصديق، وقبل القتال أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم بعملية استطلاعية يستكشف فيها مواقع جيش المشركين وعدتهم، قام بالعملية رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ومعه أبو بكر رضي الله عنه الصاحب الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل المواقف والأحداث، إنها مهمة خطيرة لكن ما أقل الدنيا في عين الصديق، وتبدأ المعركة ويلتحم الجيشان ويشتد القتال ويتصاعد الغبار وتسيل الدماء أنهاراً وتتناثر الأشلاء في كل مكان فأين كان الصديق رضي الله عنه؟ كان في أخطر الأماكن على الإطلاق؛ كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مطلوب الرأس ولاشك في ذلك، وقد يقتل حراسه، لكن أهلاً بالموت إن كان في سبيل الله.
فما اقترب أحد من المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حطمه بالسيف، يلتفون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحيطه من كل جانب؛ يشفق على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشوكة يشاكها ويستعذب الألم إن كان فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إلى الله يستغيث به ويلوذ بحماه ويطلب عونه ويلح في الطلب ويقول:(اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً)، وما زال يجتهد في الدعاء حتى سقط رداؤه على الأرض، فأخذه الصديق رضي الله عنه من الأرض ورده على منكبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلبه يتفطر عليه ويتقطع من أجله ويقول: يا رسول الله! كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه منجز لك ما وعدك، يقين عجيب ثم خفق النبي صلى الله عليه وسلم خفقة يستقبل الوحي ثم انتبه وقد جاءته البشرى بالنصر، فمن أول من يبشر؟ أنه يبشر أقرب الناس إليه وأعظم الناس رغبة في نصر هذا الدين وأكثر الناس تضحية من أجل هذا الدين وهو أبو بكر، فقال له:(أبشر يا أبا بكر! أتاك نصر الله)، انظر إلى التعبير: أتاك أنت يا صديق! قال: (أبشر يا أبا بكر! أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع)، أي: الغبار.