[نماذج من إنكار الصديق رضي الله عنه لذاته في المال]
الصديق جبل على العطاء، يعني: يحب أن يعطي، يعني: هناك ناس جبلوا على العصبية، وناس على الشجاعة، وناس ظرفاء ودمهم خفيف، والصديق جبل على حب العطاء، فطرته تدفعه إلى العطاء، وتشعر وأنت تقرأ سيرته أنه يستمتع بالعطاء، ويبحث عن العطاء، وهذا شيء عجيب.
والإنسان بصفة عامة جبل على حب المال حباً شديداً، قال عز وجل: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:٢٠]، وقال: {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء:١٠٠]، أي: شديد البخل، وشديد المنع، والصديق لم يكن كذلك، وسبحان الذي سواه على هذه الصورة، الصديق كان يهوى الإنفاق.
وهنا أمر عجيب جداً: الصديق كان يستمتع بهذا الإنفاق حتى في الجاهلية قبل الإسلام، والزعامة في قريش كانت مقسمة بين عشر قبائل قبل الإسلام، فمثلاً: السقاية والرفادة في بني هاشم، والحجابة والولاء والندوة ومفتاح الكعبة في بني عبد الدار، والسفارة في بني عدي وهكذا.
وأبو بكر كان مسئولاً عن ضمان الديات والمغارم في مكة، يعني: واحد عليه دية، واحد يريد قرضاً، واحد يريد أن يشتري جملاً، يذهب إلى الصديق رضي الله عنه وأرضاه ليضمنه عند قريش، وإذا سأل الصديق قريشاً ضماناً قبلوه، وإذا سألهم غيره خذلوه.
وهذا عمل في منتهى الخطورة، وهو أن يتحمل الصديق الديات، فإذا الرجل لم يوف الدية يتحمل الصديق، وإذا لم يوف الرجل دينه يتحمل الصديق أقساطاً على الرجل إذا لم يوف أقساطه، أي: أنه عمل فيه خسارة، ويحتاج إلى كثير مال، وإلى نفس راغبة في قضاء حوائج الناس وتحمل مغارمهم.
وبهذا نستطيع أن نفهم الوصف الذي وصف به ابن الدغنة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فإذا كان هذا هو الصديق قبل إسلامه فما بالكم به بعد أن أسلم؟ وما بالكم كيف يكون حاله إذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً قدسياً ينقله عن رب العزة عز وجل، يقول فيه الله تعالى: (أنفق يا ابن آدم! أنفق عليك)، كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
بل كيف يكون حاله وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم أن مال العبد لا ينقص من الصدقة؟ والصديق رضي الله عنه كان واضعاً نصب عينيه حقيقة ما اختفت لحظة عن بصره وعقله وقلبه، تلك الحقيقة هي: إن كان قال فقد صدق صلى الله عليه وسلم، هكذا القول عنده، يعني: كان عند الصديق التصديق الكامل الذي لا شك فيه، فما بالكم إذا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ويقول: (ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، - وذكر منها صلى الله عليه وسلم -: ما نقص مال عبد من صدقة)؟ هذه الطبيعة الفطرية، وهذا اليقين في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر لنا كثيراً من مواقف الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
الصديق رضي الله عنه شاهد مع بدايات الدعوة في أرض مكة التعذيب الشديد والنكال الأليم بكل من آمن من العبيد، والعبيد في ذلك الزمان يباعون ويشترون، وليس لهم أدنى حق من الحقوق، فتألمت نفس الصديق الرقيقة لهذه الوحشية من كفار مكة، وسارع لينقذ هذا ويفدي ذاك، فكان يشتري العبد ثم يعتقه لوجه الله، وحاله: لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً.
فـ بلال رضي الله عنه وأرضاه كان يعذب على صخور مكة الملتهبة وعلى صدره الأحجار العظيمة، وكان سيد بلال في ذلك الوقت أمية بن خلف عليه لعنة الله، فمر عليه الصديق رضي الله عنه وأرضاه فساوم عليه سيده أمية بن خلف وعرض عليه أن يشتريه بمال كثير.
وفي رواية: أنه اشتراه بسبع أوقيات من الذهب، وهناك حوار لطيف جداً دار بين الصديق رضي الله عنه وأرضاه وبين أمية بن خلف، فـ أمية بن خلف يريد أن يبث الحسرة في قلب الصديق فقال: لو عرضت علي أوقية واحدة من الذهب لبعته لك، يعني: يحاول أن يحسره على البيعة، والصديق طبعاً كان سهلاً إذا باع، سهلاً إذا اشترى، فالرجل قال له: سبع أوقيات من الذهب، فوافق، وطبعاً لو كان واحداً آخر كان ساومه على سعر أفضل، لكن الصديق رضي الله عنه وأرضاه رد على أمية بن خلف في هدوء وقال: لو طلبت مائة أوقية من الذهب لاشتريته، فارتدت الحسرة في قلب أمية بن خلف.
والمشرك لا يدرك قيمة بلال بعد أن أسلم، لكن الصديق رضي الله عنه وأرضاه يدرك ذلك، فهذا العبد