وهناك توافق آخر ملحوظ بين الصاحبين الكريمين العفيفين: أنهما كان يبتعدان تماماً عن أماكن الفساد واللهو والشهوات والمعاصي على كثرتها في مكة، وإذا كان ابتعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الموبقات لأنه معصوم صلى الله عليه وسلم فإنه من العجيب لرجل مثل الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن يبتعد تماماً عن هذه المنكرات حتى قبل إسلامه وما فيه أحد في مكة يحاسب على هذه الأمور، فهذه الأمور كانت منتشرة انتشاراً كبيراً جداً في مكة، ومع ذلك كان يبتعد عنها؛ لأنها ليست من مكارم الأخلاق، فـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه لم يشرب خمراً في جاهلية ولا في إسلام.
روى ذلك ابن عساكر بسند صحيح عن عائشة: أنه كان يعرض عنها لأنها تذهب بالعقل، وكان يقول: أصون عرضي وأحفظ مروءتي، وكان يحتقر من يشربها؛ لأنه يهين نفسه بشربها.
والصديق لم يزن في جاهلية ولا في إسلام مع انتشار صاحبات الرايات الحمر في مكة، والصديق لم يأت طفرة، ولم يتعود على فحش القوم، ولم يؤذ جاراً، ولم يهضم حقاً، ولم يخلف موعداً، الصديق كان يقدس الأخلاق حتى قبل إسلامه، وحاربه أهل مكة ولم يستطع أحدهم أن يطعنه في خلقه؛ لأنه لم يكن به مطعن رضي الله عنه وأرضاه.
ولو تخيلنا رجلاً كهذا تعرض عليه دعوة الإسلام ودعوة الأخلاق العظمى في الأرض وعلى لسان أفضل الناس أخلاقاً ماذا يكون رد فعله؟ من الطبيعي جداً: أن يقبلها، بل وأن يستمسك بها، فهي له خلاص من هذا المجتمع المتعفن بالمعاصي والشهوات والرذائل.
إذاً: الحب المتبادل والصدق المتبادل والمروءة المتبادلة والتواضع المتبادل والعفة المتبادلة كانت أموراً واضحة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه وأرضاه، هذا التوافق العجيب بين الشخصيتين سهل على رسول الله صلى الله عليه وسلم توصيل الدعوة كما سهل على الصديق رضي الله عنه وأرضاه قبولها.