للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ثبات الصديق أمام فتنة الأولاد]

نوع آخر من الثبات للصديق رضي الله عنه وأرضاه: ثبات الصديق أما فتنة الأولاد: الأولاد فتنة كبيرة، والمرء يقبل أن يضحي تضحيات كثيرة إذا كان الأمر يخصه هو شخصياً، ولكن إذا ارتبط الأمر بأولاده فإنه قد يتردد كثيراً، وغالباً ما يحب الرجل أولاده أكثر من نفسه، كما أن ضعف الأولاد ورقتهم واعتمادهم على الأبوين يعطي مسوغات قد يظنها الرجل شرعية للتخلف عن الجهاد بالنفس والمال، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:١٤]، روى الترمذي وقال: حسن صحيح: أن رجلاً سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية فقال: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك رأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم -يعني: أولادهم؛ لأنهم منعوهم أن يأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:١٤]، وانظر الآية التالية مباشرة لهذه الآية في سورة التغابن يقول الله عز وجل فيها: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:١٥].

هكذا بهذا التصريح وهذا التقرير الواضح: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:١٥]، فأين أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه من هذه الآيات ومن هذه الفتنة؟ القضية كانت في منتهى الوضوح في نظر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فأوراقه كانت مرتبة تماماً، والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة عنده على كل شيء، فـ الصديق مع رقة قلبه ومع عاطفته الجياشة ومع تمام رأفته بأولاده كان لا يقدم أحداً منهم مهما تغيرت الظروف على دعوته وعلى جهاده، وما فتن بهم لحظة، بل أعلن الدعوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ودافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كاد أن يقتل، ولم يفكر أنه إذا مات سوف يخلف وراءه صغاراً ضعافاً محتاجين في وسط من الكفار المتربصين، فكان يجاهد ويعلم أنه إذا أراد فعلاً الحماية للذرية الضعيفة عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن ينطلق بكلمة الدعوة وكلمة الحق مهما كانت العوائق، قال عز وجل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:٩].

والصديق لما هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبكي من الفرح؛ لأنه سيصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مليء بالمخاطر مخلفاً وراءه ذرية في غاية الضعف، ويعلم أن قريشاً ستهجم على بيته لا محالة، وقد حدث ذلك وضرب أبو جهل عليه لعنة الله أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما فسال الدم منها، فما رأى الصديق كل ذلك، بل كل ما رآه هو نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والطريق إلى الله عز وجل، وليس هذا فقط ولكنه حمل كل أمواله معه، وكل ما تبقى بعد الإنفاق العظيم كان (٥٠٠٠) درهم حملها جميعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وماذا ترك لأهله؟ ترك لهم الله ورسوله.

إنه يقين عجيب وثبات يقرب من ثبات الأنبياء، وأبو قحافة والد الصديق رضي الله عنه كان طاعناً في السن وقت الهجرة، وكان قد ذهب بصره؛ فدخل على أولاد الصديق وهو على وجل من أن الصديق قد أخذ كل ماله وترك أولاده هكذا، هو يعرف أن الصديق سيأخذ المال، لكن الابنة الواعية الواثقة المطمئنة أسماء بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها وضعت يد الشيخ الكبير على كيس مملوء بالأحجار توهمه أنه مال، فسكن الشيخ لذلك، هذا الشيخ الكبير لم يفهم هذه التضحيات، ولن يفهمها أحد إلا من كان على يقين يقارب يقين الصديق رضي الله عنه.

والصديق في موقف الهجرة يوظف أولاده في عملية خطيرة إنها عملية التمويه على الهجرة وهي عملية قد تودي بحياتهم في وقت شط الغضب بقريش حتى أذهب عقلها، فـ عبد الله بن الصديق رضي الله عنهما كان يتحسس الأخبار في مكة نهاراً ثم يذهب ليلاً إلى غار ثور يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأباه بما يحدث في مكة، ويظل حارساً ع

<<  <  ج: ص:  >  >>