[فتنة انقطاع الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم]
ومع كون فتنة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفراقه إلى يوم القيامة فتنة عظيمة ومصيبة هائلة مع كون هذه الفتنة عظيمة إلا أنها لم تكن الفتنة الوحيدة التي مرت بالمسلمين في هذه الأيام الحزينة، فإلى جوار فتنة الموت والفراق كانت هناك فتن أخرى عظيمة.
كانت هناك فتنة انقطاع الوحي، فقد كانت أم أيمن رضي الله عنها تبكي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تعلل ذلك بأنها تبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء، وانقطاع الوحي من السماء لا شك أنه فتنة عظيمة، وجبريل عليه السلام لن ينزل على بشر إلى يوم القيامة.
فرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، ولا شك أن البشر سيخطئون كثيراً ويحتاجون إلى تقويم وإصلاح، فمن سيقوم بذلك؟ عليهم أن يقوموا بذلك بأنفسهم؛ فالمنهج الإسلامي المتكامل أعطى لهم هذه الصلاحيات لإكمال مسيرة الحياة إلى يوم القيامة بدون رسل ولا أنبياء ولا وحي، لكن لا شك أن الفترة التي أعقبت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تمثل عبئاً ثقيلاً على نفوس الصحابة، وقلقاً بالغاً من أن يفشلوا في حل أمورهم دون وحي، ولا شك أنهم سيختلفون، وسيختلفون كثيراً، فمن يكون على صواب؟ ومن يكون على خطأ؟ عليهم أن يحكموا بالمنهج المتروك في أيديهم القرآن والسنة.
ولكن ستظل طوائف من المؤمنين تخطئ وهي تظن أنها على صواب، فالوحي كان يفصل في هذه الأمور فصلاً لا يدع مكاناً للريبة، والآن انقطع الوحي.
والرجل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير على الأرض، وهو يعلم أنه من أهل الجنة، ويوقن بذلك إذا بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقينه بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وتخيل معي كيف يطيق رجل صبراً أن يسير على الأرض وهو يعلم أنه من أهل الجنة.
هذا الذي جعل عمير بن الحمام في غزوة بدر يلقي بالتمرات لما بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ويقول: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة.
وبلال بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فإذا به على فراش موته سعيداً؛ لأنه سيموت وغداً يلقي الأحبة محمداً وصحبه.
وهكذا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية العشرة، وهكذا عبد الله بن مسعود وهكذا خديجة وعائشة وسائر أمهات المؤمنين، وهكذا غيرهم ممن بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الآن بعد أن انقطع الوحي فلا أحد يدري أهو من أهل الجنة أم من أهل النار؟ وعجبت لمن يضحك كيف يضحك وهو على يقين من ورود النار، قال عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:٧١] ثم هو لا يعلم أيجوز الصراط إلى الجنة أم يسقط في النار.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم عن كثير من أمور الغيب بالوحي، فبشرهم بنصر بدر، وبشرهم بالفتح، وبشرهم بفتح الشام وفارس واليمن، وكان يخبرهم عما كان وعما هو كائن وعما سيكون إلى يوم القيامة، أما الآن بعد انقطاع الوحي فأغلب باب المستقبل لا نعرف منه إلا ما أنبأنا به الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت، لكن كم من الأمور سيحدث كنا نتمنى أن نعرف عاقبتها، أترانا سنفوز أم سنخسر، وأحداث العالم كيف ستئول في النهاية.
وهكذا الفرس انتصرت على الروم، والرسول صلى الله عليه وسلم يبشر بأن الروم ستنتصر، كما قال عز وجل: {ألم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:١ - ٤].
وأما الآن فلا نعرف شيئاً على وجه اليقين، نعم ترك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منهاجاً واضحاً من قرآن وسنة نستقرئ به سنن الله في الأرض، ونستنبط به النتائج قبل أن تحدث، لكن ستظل كثير من الأمور معروفة على وجه الظن لا على وجه اليقين، ويقين الوحي لا عودة له حتى تنتهي حياة الأرض وتقوم القيامة.
ولا شك أن هذه الفتنة أذهلت الصحابة، وسيبدأ طريق مليئ بالأشواك، وعليهم أن يعتمدوا على أنفسهم في السير بعد فقد القائد العظيم، والدليل الأمين محمد صلى الله عليه وسلم، إذاً كانت هناك فتنة فراق أحب الخلق إلى قلوب الصحابة، وكانت هناك أيضاً فتنة انقطاع الوحي.