أين حظ نفسه في الإمارة والسيادة؟ فمع كونه الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قلما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم أميراً على سرية، كان صلى الله عليه وسلم يبعثه تحت إمرة غيره، فما كان يعترض ولا تتحرك نفسه لقياده أو لسلطة، وأحياناً يكون الأمير عليه حديث الإسلام، والصديق رجل له باع طويل في الإسلام، لم يكن ينظر لذلك، أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعمر ووجوه الصحابة تحت إمرة عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه في سرية ذات السلاسل سنة ٨ هـ، وكان إسلام عمرو بن العاص حديثاً جداً، يعني: أسلم منذ خمسة شهور، والصديق أسلم قبل ذلك بأكثر من عشرين سنة ومع ذلك فإنه تقبل الأمر بصدر رحب تماماً واستمع وأطاع لأميره عمرو بن العاص.
روى الحاكم بإسناد صحيح عن عبد الله بن بريدة رضي الله عنه قال:(بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما انتهوا إلى مكان الحرب، أمرهم عمرو ألا ينوروا ناراً)، والليلة كانت ليلة باردة، والمسلمون في حاجة إلى الدفء، لكن عمرو بن العاص رضي الله عنه خاف من أن يكتشف العدو مكان المسلمين إذا أشعلوا النار، فغضب عمر بن الخطاب وهم أن يأتيه؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يلاحظ ما فكر فيه عمرو بن العاص، لكن انظروا إلى تجرد الصديق وفقهه وإنكاره لذاته، يقول عبد الله بن بريدة رضي الله عنه: فنهاه أبو بكر وأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستعمله عليك إلا لعلمه بالحرب، فهدأ عنه عمر رضي الله عنه وأرضاه.
قيمة الإمارة عند الصديق ظهرت في كلمة من كلماته قالها وهو ينصح رجلاً من المسلمين كان ربيلاً، وهو رافع بن عمرو الطائي، والنصح هذا كان في نفس الغزوة ذات السلاسل، وكان رافع بن عمرو الطائي حديث الإسلام فقال: لا تؤمرن على اثنين، يعني لا تطلب الإمرة حتى على رجلين.
وظهر ذلك أيضاً في كلمة أخرى للصديق رضي الله عنه قال: إنه من يك أميراً فإنه من أطول الناس حساباً، وأغلظهم عذاباً، ومن لم يكن أميراً فإنه من أيسر الناس حساباً وأهونهم عذاباً.