لكي نفهم هذا الحدث الكبير ولكي نستوعب اختيار أبي بكر الصديق خليفة للمسلمين لابد أن ندرس في البداية شخصية هذا الرجل النادر أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ولابد أن نفرد بعض المحاضرات لنعرض لطرف بسيط في حياته، فنحن لا نستطيع أبداً أن نفتح الباب على مصراعيه لرؤية هذا الرجل العملاق الفذ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وإنما نحن فقط كما يقولون: نغلق الباب وننظر على استحياء لنعرف من هذا، وما هي مفاتيح الشخصية عند هذا الرجل العظيم، وما سر هذه الرؤية الواضحة عنده في كل الأمور، وما سر هذه الدرجة الرفيعة التي نالها في دنياه وفي آخرته.
أبو بكر الصديق رضي الله عنه شخصية عجيبة جمعت بين طياتها الرقة والشدة، والرحمة والقوة، والأناة والسرعة، والتواضع والعظمة، والبساطة والفطنة، شخصية عجيبة جمعت كل ذلك وأضعافه من فضائل الأخلاق والطباع، وهبه الله عز وجل حلاوة المنطق، وطلاقة اللسان، وقوة الحجة، وسداد الرأي، ونفاذ البصيرة، وسعة الأفق، وبعد النظرة، وصلابة العزيمة، كل هذا وغيره وليس بنبي، إن هذا لشيء عجاب! واستمع إلى رأي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه في هذه الشخصية، شخصية أبي بكر الصديق، فقد دار حوار لطيف بين محمد بن علي بن أبي طالب المشهور بـ محمد ابن الحنفية وبين أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، أخرج هذا الحديث البخاري رحمه الله.
قال محمد بن علي بن أبي طالب يسأل أباه علي بن أبي طالب: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول: عثمان.
فهو يعلم قدر سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، وأن علي بن أبي طالب يتبعه، فقال: وخشيت أن يقول: عثمان، فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.
وهذا تواضع كبير من سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ورضي عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
ترى كيف تكون شخصية هذا الرجل الذي هو خير الناس في المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جزء من حديث رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:(إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر) يعني: من أكثرهم منة وفضلاً علي في صحبته وماله أبو بكر، قال:(ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته) إنها مقامات عالية جداً، فـ أبو بكر من أمن الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذ الله خليلاً، ولولا ذلك لاتخذ أبا بكر، فكيف يكون هذا الرجل الذي ظفر بتلك المنزلة الراقية؟ وكيف وصل إليها؟ في هذه المجموعة لا نريد دراسة أكاديمية لحياة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، بمعنى: تاريخ حياته منذ الميلاد إلى أن مات، وإنما سندرس الشخصية بالبحث في مفاتيحها، وأحب أن نبحث في مفاتيح شخصية هذا الرجل العظيم، وكيف سهل عليه فعل هذا الخير كله؟ وكيف وصل إليه؟ وكيف حافظ عليه؟ ثم هل من سبيل بعد معرفة هذا التاريخ إلى أن نقلده فيما فعل، ونصل إلى ما إليه وصل؟ سنحاول في هذه المجموعة أن نضع أيدينا على هذه النقاط التي جعلت من أبي بكر الصديق أبا بكر الصديق.