[رقة قلب الصديق ولين جانبه وهدوء نفسه]
السمة الثانية من سمات أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: سمة رقة القلب ولين الجانب وهدوء النفس.
وبعض النفسيات تكون في طبيعتها غليظة جافية، والبعض الآخر يكون في قلبه رحمة فطرية غير مصطنعة وغير متكلفة، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان من هذا النوع الأخير.
لقد سمع أبو بكر الصديق وصايا حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم فحفظها وعقلها وعمل بها: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله! إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات صلى الله عليه وسلم، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه).
كانت رقة قلبه رضي الله عنه وأرضاه تنعكس على حياته الشريفة، وتنعكس على علاقاته مع الناس، وتستطيع بعد أن تدرك حقيقة أنه جبل على الرحمة والرقة والهدوء، وأن تفهم كثيراً من أفعاله الخالدة رضي الله عنه وأرضاه.
جاء في البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: (لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين).
وطبعاً! السيد عائشة لم تولد إلا بعد أن أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، والسيدة أم رومان أمها، قالت: (ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشياً، ولما ابتلي المسلمون -يعني: إيذاء المشركين للمسلمين في فترة مكة- خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة -والقارة قبيلة من القبائل في ذلك الوقت- فقال: أين تريد يا أبا بكر؟! فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي).
سبحان الله! أبو بكر هنا سيترك التجارة والمال، وسيترك الوضع الاجتماعي المرموق، وسيترك البيت والأهل والبلد والكعبة، بل وأعظم من ذلك عنده سيترك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعض الناس يحب أن يعبد الله بالطريقة التي يراها صحيحة، لكن أبا بكر كان يعبد الله بالطريقة التي أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم له، كان من الممكن أن يبقى أبو بكر في مكة ويعبد الله في سرية ويتاجر ويحقق المال ويعطي هذا المال للدعوة، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد له الهجرة؛ لأنه ليست له حماية في مكة، فـ أبو بكر الصديق من قبيلة ضعيفة هي قبيلة بني تيم، فترك كل شيء وهاجر، وإلى أين؟ إلى أرض بعيدة مجهولة غير عربية إلى الحبشة، لكن الله سبحانه وتعالى أراد غير ذلك؛ أراد له البقاء في مكة، وأراد له الحماية والجوار فيها فسخر له ابن الدغنة.
قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، ثم وصف ابن الدغنة أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وصفاً عجيباً جداً فقال: إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار.
سبحان الله! هذه نفس الكلمات التي ذكرتها السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه، وفي هذا إشارة لا تخفى على اللبيب لدرجة أن ابن حجر العسقلاني قال: يكفي بها مفخرة لـ أبي بكر الصديق ومنقبة له أن يوصف بوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير اتفاق بين ابن الدغنة وبين السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها.
قال ابن الدغنة: فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك.
فرجع، وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق؟ أنا له جار، فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة.
وقالوا لـ ابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذنا بذلك، ولا يستعلن به؛ فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
ولماذا النساء والأبناء؟ لأن قلوب النساء والأبناء قلوب رقيقة، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه رجل رقيق يخرج كلامه من قلبه فيصل إلى القلوب الرقيقة المفتحة للمعرفة، لكنهم لا يخشون على الرجال؛ فقلوبهم كانت قاسية عرفت الحق واتبعت غيره، فلبث أبو بكر الصديق يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، يعني: لا يقرأ في الكعبة ولا في مجالس التقاء الناس ولا في الأسواق.
ثم بدا لـ أبي بكر