فهل جيد العجم مثل جيد العرب. كوصف امرئ القيس في الخيل، والنابغة في الاعتذار، وزهير في المدائح، والأعشى في الخمر؟ أو كجيد جرير والفرزدق والأخطل وبشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبي نواس وديك الجن والحسين بن الضحاك والمتنبي وأبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز وأبي فراس وغيرهم وإلى هذا العصر، وما بين ذلك من الشعراء الذين تغرق قطرات العجم في لججهم، حتى إنه يقول: إن ذلك كله جيد لا يعاب. هل يستويان مثلا في الجودة من حيث هي:
ألم تر أنّ السيف ينقص قيمةً ... إذا قلت إنّ السيف أمضى من العصا
وإنما قلّ الجيّد في الشعر، لأن البلغاء وعلماء الأدب انتقوا الجيد العالي الذي يكون نهاية في الفصاحة والبلاغة، وجعلوه أنموذجا ومثالا يحذى، على ما قرروه بقوة فكرهم وصحة انتقادهم. فكان ذلك الجيد في الطبقة العليا. ولا جرم أن الساقط من الشعر أكثر من العالي عند أئمة البلاغة، وإلا فعلى الحقيقة، الذي يعده أرباب البلاغة من ساقط الشعر يكون جيدا عند غيرهم غير معيب، إلا ما هو ساقط إلى الغاية. وهذه النكتة هي العلة في قلة الجيد من الشعر.
ومن أين في شعر العجم ما في شعر العرب من المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه والتورية والاستخدام والجناس، على اختلاف كل نوع من هذه الأنواع وتشعب أقسامه. إلى غير ذلك من أنواع البديع وهو ما يقارب المائة نوع. هيهات ما بينهما صيغة أفعل.
وذكر الحصري في زهر الآداب أن أعرابيا قال لشاعر من أهل الفرس: الشعر للعرب، وكل من يقول الشعر منكم، فإنما نزا على أمه رجل منا. انتهى.
وقد أنصف ابن خلف في قوله: وللعرب بيت وديوان، وللعجم قصر وإيوان وأما دعواه أن الشاعر لا يحسن في الأكثر، فالعذر في ذلك ظاهر. لأنه في ضائقتين شديدتين إلى الغاية. وهما: الوزن، ولزوم الروي الواحد. والناثر غير مضطر إلى شيء منهما، بل هو مخلىً ونفسه، إن شاء أتى بسجعتين على حرف واحد، وإن شاء على أكثر، وإن شاء أتى بالسجعة على عشرين كلمة، أو على أقل إلى كلمتين. ولو أتى الكاتب برسالة مطولة على حرف واحد في سجعه، وعدد مخصوص من كلمات السجع، لكان حاله حال الشاعر، بل كان كلامه أسمج وأثقل على الأسماع والقلوب، لأن الشعر يروجه الوزن، ولا كذلك النثر. فحينئذ لا يصلح هذا أن يكون فضيلة في النثر على النظم.
وكيف ولم يزل للشعر ماءٌ ... يرفّ عليه ريحان القلوب
وليكن ها هنا آخر ما أردته من الكلام على المثل السائر وقد سامحته في كثير سقطه فيه ظاهر.
على أنني لا أنكر ما له فيه من الإحسان، والنكت التي هي لعين هذا الفن إنسان فإنه لم يأل جهدا في التوقيف الذي وقفه، ولم يقصر في التثقيف الذي ثقفه.
وقد نبه على محزات هذا الفن، وأشار إلى اقتناص ما شرد منه وما عن. وإذا اتفق للكاتب أو الشاعر مراجعة المثل السائر والفلك الدائر وهذه الأوراق، فلا مرية في أن ذلك يفيده فوائد جمة، ويتنبه لموارد الخطأ فيجتنبها، ويتيقظ لمواقع الحسن فينتجعها.
وقد أهديتها لك وهي عندي ... على الأيام من أزكى الهدايا
ولله الحمد أولا وآخرا، والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين والسلام.