أقول: هذا فيه تسامح، فإن الشاعر في كل وقت ما يفتتح قصيدته بما يدل على مقصوده. فإن من مدح يطلب الإرفاد والإعانة بمال أو مركوب أو شفاعة أو طلب ولاية، ثم صدر تلك القصيدة بغزل يصف فيه محبوبه، أو وصف هوى أو غربة أو شوق أو مسير، كيف يتأتى له ذلك؟. نعم إذا كان مدحا مجردا بلا غزل لاق به ذلك، وأكثر ما يكون المدح مجردا من الغزل إذا كان في واقعة تجددت للمدوح فيهنئه الشاعر إما بولاية منصب أو بظفره بعدو أو بمولود أو بسلامة من حادثة أصابته أو هناء بعافية أو بتشيف أو غير ذلك من مجددات الوقائع. ولولا خوف الإطالة ذكرت الشواهد على ذلك.
وأما الكاتب فإنه إن كتب إلى من هو دونه أو مساويه أو أرفع منه، بحيث أنه تمكن مخاطبته بالدعاء، فيحتاج إلى أن يكون الدعاء مناسبا لما يتضمنه الكتاب من شوق أو وحشة أو هدية أو استهداء أو شفاعة أو سؤال أمر أو شكر أو هناء أو عزاء أو ما هو بحسب الحال. وهذا النوع إنما حافظ عليه المتأخرون من الكتاب خصوصا في التقاليد والتواقيع فإنهم راعوا ذلك. ولولا خوف الإطالة لأوردت من ذلك جملة كافية.
على أن هذا لا يحتاج أهل هذا العصر إلى التنبيه عليه، لأنه هذا الأمر قد اشتهر بين كتابه.. وقد بقي هو الغاية المطلوبة من الكاتب. حتى إنه ليقال: افتتح تقليده أو توقيعه أو كتابه بكيت وكيت. ويذكر اسم صاحب التقليد في أول السجعة، أو ينبه على معنى ما اشتمل عليه الكتاب. فمنهم السابق ومنهم المقصر. وقد يتفق في غالب الأوقات اسم المكتوب له والوظيفة، فينبه الكاتب على المعنى. ألا ترى ما أحسن قول.... وقد كتب تقليدا بولاية العهد للسلطان الملك الأشرف صلاح الدين فقال: الحمد لله الذي جعل الملك الأشرف صلاح الدين. فما استعار له شيئاً. واتفق لي مثل هذا في توقيع كتبته لقاضي القضاة الحنفية عماد الدين علي بتدريس المدرسة القايمازية فقلت: الحمد لله الذي جعل عماد الدين عليا فما استعرت له شيئاً. وهذا كثير الاتفاق.
وقول القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر وقد كتب تقليدا بولاية العهد للسلطان الملك الصالح علاء الدين علي عن والده السلطان الملك المنصور فقال: الحمد لله الذي شرف سرير الملك بعليه، وحاطه منه بوصيه، وعضد منصوره بولاية عهد مهدية وقول القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر رحمه الله تعالى في تقليد كتبه لركن الدين بيبرس المظفر، عندما تملك عن مولانا أمير المؤمنين أبي الربيع سليمان أدام الله أيامه فافتتحه بأن قال: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم.
وكتب فخر الدين بن لقمان عن الملك السعيد بن الملك الظاهر رحمهما الله تعالى تقليدا بوزارة برهان الدين السنجاري، افتتحه بقوله تعالى: " يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ". وفي هذه اللمعة كفاية. ولكن قد ظهر أولا أن الشاعر لا يلزمه الكاتب من مراعاة المطالع.
[كيف يستفيد الكاتب المنشىء]
[من التراث الأدبي]
وقال في الفصل العاشر في الطريق إلى تعلم الكتابة: الثاني أن يمزج كتابة المتقدمين بما يستجده لنفسه من زيادة حسنة: إما في تحسين ألفاظ أو تحسين معان ثم قال: إلا أن هذه الطريق مستوعرة جدا، ولا يستطيعها إلا من رزقه الله لسانا هجاما وخاطرا رقاما، وقد سهلت لي صعابها وذللت فجاجها، وكنت أشح بإظهار ذلك لما عانيت في نيله من العناء.
أقول: وقد سلك هو طريقا والقاضي الفاضل طريقاً:
عاجوا إلى تلفي وعجت إلى الرضى ... شتان بين طريقهم وطريقي
فإن القاضي رحمه الله، أذهل لما أسهل، وابن الأثير سامحه الله أحزن لما أحزن، على أن ابن الأثير أكثر ما جاء به في طريقه: حل المنظوم، وتضمين الأمثال. وليس هو بأبي هذه العذرة، ولا ناظم تلك الشذرة. وأين كلامه من كلام الوزير أبي الوليد ابن زيدون: ومن وقف على ترسله، على حسن توصله إلى هذا الفن ولطف توسله. لا سيما رسالته التي كتبها على لسان ولادة بنت المستكفي إلى الوزير أبي عامر ابن عبدوس، والرسالة التي كتبها إلى ابن جهور يستعطفه بها. فإنه أتى في هاتين الرسالتين بالغرائب والعجائب، وضمنهما من الأمثال والوقائع وحل الأبيات ما زاد، وضوع نده في كل ناد، لأنه حشر فيهما فنادى، ونظم لآلىء ذلك توأما وفرادى فجاءت كل رسالة.
يحرك أعطاف المعالي سماعها ... وتبعث أطراب النهى وتهيّج