قال في المعاظلة: القسم الخامس من المعاظلة أن ترد صفات متعددة على نحو واحد.
كقول أبي تمام وأنشد له أبياتا منها:
تامكه نهده مداخله ... ملمومه محزئلّه أجده
ثم قال: وهذا البيت من المعاظلة التي قلع الأضراس دونها.
أقول: ليس ثقل البيت من تعدد الصفات، وإنما هو من قوله تامكه ومحزئله، وليس في تعدد الصفات نفسها ثقل ولا معاظلة إذا وردت بألفاظ عذبة، كما تقول إذا وصفت قواما: قويمه، أهيفه، ناعمه، لدنه، ريانه. فإن حذفت الهاء زاد حسنا. ومثل ذلك قول القاضي شمس الدين أحمد بن خلكان.
قسما بوجهك وهو بدرٌ طالعٌ ... وبليل طرتك التي كالغيهب
وبقامةٍ لك كالقضيب ركبت في ... أخاطرها في الحب أصعد مركب
ويطيب مبسمك الشهي البارد ال ... عذب النمير اللؤلؤي الأشنب
ومما قلته في هذا النوع:
قسما بناضر قدك اللدن القوي ... م الأهيف المتعطف الرّيان
وبجفني الدامي القريح الهامع ال ... هامي الملث الهاطل الهتّان
مالي على ذل الجفا صبرٌ ولا ... جلدٌ يساعدني على الهجران
والحس يحكم بيننا وبين من يدعي أن هذا من باب المعاظلة اللفظية. وأما بيت أبي تمام فإنه من قصيدة جاء فيها مثله بيتان وهما:
مارنه لدنه مثقّفه ... عرّاصه في الأكفّ مسحسحه مطّرده
ثم قال:
مسفّه ثرّه مسححه ... وابله مستهلّه برده
قال وقد أورد قول أبي الطيب:
فلا يبّرم الأمر الذي هو حالل ... ولا يحلل الأمر الذي هو يبرم
[رد التعصب]
وبلغني عن أبي العلاء أنه كان يتعصب لأبي الطيب، حتى إنه كان يسميه الشاعر ويسمي غيره من الشعراء باسمه.
وزاد ابن الأثير في ذم المعري وقال: إن الله قد جمع له بين العمى في البصر والبصيرة.
أقول: إن المعري معذور في تفضيل المتنبي على غيره، وليس هو ببدع في ترجيحه على غيره من الشعراء فأكثر الناس على هذا المذهب. وما المعري ولا غيره ممن رجحه يعتقد أنه معصوم لا يقع في الخطأ. وإنما الرجل إذا أجاد لم يلحقه أحد، وما له عندي نظير غير القاضي الفاضل رحمه الله تعالى، فإن الفاضل هكذا ينحط في بعض الأوقات إلى الحضيض، ثم يثب وثبة تكون الثريا لها ثرى، ويدع من اتبع أثره وقفا خطاه وقد رجع القهقرى. كقوله: وخواطري كليلة، وتصرفاتي قليلة، وحميتي كما يعرفها، والخلطة تخليط، فإن سمع سيدنا بابن شفة عني فهو لقيط.
وكذلك أبو الطيب، بينا تراه على عادة الشعراء من متوسط وردي، حتى يأتي بجيد ترك الناس ينفضون غبار سبقه من هواديهم، وجلس على أسرة الأفق مطمئنا والشعراء يهيمون في واديهم. كما قال:
فذي الدار أخدع من مومسٍ ... وأمكر من كفة الحابل
ثم أردفه بقوله:
تفانى الرجال على حبها ... وما يحصلون على طائل
وكما قال يرثي والدة سيف الدولة:
أتتهنّ المصيبة غافلات ... ودمع الحزن في دمع الدلال
ثم قال:
وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ... ولا التذكير فخر للهلال
وكما قال منها:
رأيتك في الذين أرى مملوكا ... كأنك مستقيمٌ في محال
ثم أردفه بقوله:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
وكما قال في رثاء ابن سيف الدولة:
بنا منك فوق الرمل ما بك في الرمل ... فهذا الذي يضني كذاك الذي يبلي
ثم أردفه:
كأنك أبصرت الذي بي وخفته ... إذا متّ فاخترت الحمام على الثكل
وكما قال:
ليت المدائح تستوفي مناقبه ... فما كليبٌ وأهل الأعصر الأول
ثم أردفه بقوله:
خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زجل
وكما قال:
نلومك يا عليّ لغير ذنبٍ ... لأنك قد زريت على العباد
ثم يقول بعد ذا:
كأنّ الهام في الهيجا عيونٌ ... وقد طبعت سيوفك من رقاد
وقد صنعت الأسنّة من همومٍ ... فما يخطرن إلا في فؤاد
وهذان البيتان وإن عدت سرقاتهما فما فيها ما له هذه الديباجة ولا فيه هذه الطلاوة.
وكما قال: