إشارةً إلى معنى الآية الكريمة. وإن كان جاء في ذلك نقل يوثق بصدقه، يرد بالتأويل إلى هذا.
وقد قال أبو العلاء المعري:
وقد يجتدى فضل الغمام وإنّما ... من البحر فيما يزعم الناس نجتدي
فاحترز بقوله: فيما يزعم الناس. يعني: في الظاهر. وإن كان الأمر في الباطن بخلاف ذلك.
وما أحسن قول الحسين بن مطير يصف مطرا:
لو كان من لجج السّواحل ماؤه ... لم يبق في لجج السّواحل ماء
وربما كابر بعض الجهال وقال: إن السحاب من البحر ولكن الرياح تقصره فيحلو. ومن هذا قول التهامي:
كالبحر تمطره السّحاب ومالها ... فضلٌ عليه لأنّه من مائه
وما يليق بهذا المكان غير التنبيه على أن المطر ليس من البحر، وأن البحر ليس بعنصر السحاب. وغير ذلك يؤخذ من كتب هذا الفن في الطبيعيات.
وما أحلى قول القاضي الفاضل رحمه الله تعالى: وصل كتابه وقد انقضى الربيع وعهده، وصدر وارده وقوض ورده، فنابت سطوره فأحسنت النيابة، وعرف الناس ما بينه وبين الربيع من القرابة، بل الأخوة فإن أمهما السحابة.
قال: ومن جملة الكتب المشار إليها، مفتتح كتاب كتبته إلى بعض الإخوان، وأرسلته إليه من الموصل ثم ذكر الكتاب.
ولما فرغ منه، بخبخ لنفسه وأثنى، وساق كتبا أخر في معنى الثناء على المراسلات الواردة، ومنها من الحسن بعض إحسان، وإذا قرنتها بكلام الفاصل قلت فتى ولا كمالك ومرعىً ولا كالسعدان.
[من المحاسن افتتاح الكتاب بآية أو حديث أو بيت شعر]
قال: ومن محاسن هذا الفن، أن يفتتح الكتاب بآية من آيات القرآن، أو بخبر من الأخبار النبوية، أو بيت من الشعر، ثم يبنى الكتاب عليه.
فمن ذلك ما كتبته في ابتداء كتاب يتضمن البشرى بفتح. وهو:
ومن طلب الفتح الجليل فإنّما ... مفاتحه البيض الخفاف الصّوارم
وقد أخذنا بقول هذا الشاعر الحكيم، وجعلنا السيف وسيلة إلى استنتاج الملك العقيم.
أقول: من محاسن ما وجدته من هذا النوع، كتاب كتبه القاضي محيي الدين ابن عبد الظاهر رحمه الله تعالى، جوابا إلى الأمير شمس الدين آقسنقر، عن كتاب ورد منه بفتح بلاد النوبة، استفتحه بعد البسملة بقوله تعالى: " وجعلنا الليل والنَّهار آيتين، فمحونا آيةَ الليل وجعلنا آيةَ النهار مُبصِرة " أدام الله نعمة المجلس، ولا زالت عزائمه مرهوبة، وغنائمه مجلوبة ومجنوبة، وسطاه وخطاه هذه تكف النوب وهذه تكف النوبة، ولا برحت وطأته على الكفار مشتدة، وآماله لإهلاك الأعداء كرماحه ممتدة، ولا عدمت الدولة بيض سيوفه التي ترى بها الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة.
صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس تثني على عزائمه التي واتت على كل أمر رشيد، وأتت على كل جبار عنيد، وحكمت بعدل السيف في كل عبد سوء " وما ربُّك بظلاّم لِلعبيد ". حيث شكرت الضمر الجرد وحمدت العيس، واشتبه يوم النصر بأمسه بقيام حروف العلة مقام بعض فأصبح غزو كنيسة سوسن كغزاة سيس.
ونفهه أنا علمنا فضل الله بتطهير البلاد من رجسها وإزاحة العناد، وحسم مادة معظمها الكافر وقد كاد وكاد، وتعجيل عيد النحر بالأضحية بكل كبش حرب يبرك في سواد، وينظر في سواد، ويمشي في سواد. وتحققنا النصر الذي شفى النفوس وأزال البوس، ومحا آية الليل بخير الشموس، وخرب دنقلة بجريمة سوس، وكيف لا يخرب شيء يكون فيه سوس.