للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال في فصل ذكر فيه هدية رطب لبعض ملوك الشام: ولما استقلت به الطريق أنشا الحسد لغيره من الفواكه أربا، وما منها إلا من قال يا ليتني كنت رطبا.

أقول أي فصاحة لهذه العبارة، وأي بلاغة على هذا المعنى الذي لا طائل تحته وأين هذا من قول أبي الحسين الجزار:

قلت لما سكب السا ... قي على الأرض الشرابا

غيرةً مني عليه ... ليتني كنت ترابا

فإن هذا أتى بلفظ القرآن العظيم، فكان له في السمع وقع وفي القلب حلاوة، ولو كان قوله ليتني كنت رطبا بعض آية أو بعض بيت أو بعض مثل أو معنى متداولا في شيء، فنقله إلى هذا، لكان حسنا.

ومن كلام القاضي الفاضل رحمه الله تعالى في جواب الخليفة: ورد الكتاب المشتمل على ما أبان عنوان النية وإن كان كتابا، وأقر النعمة وإن علا وكان سحابا، المقتضي حد الطاعة ولتلك القدم الشريفة يقول المؤمن ليتني كنت ترابا.

ثم إن ابن الأثير قال: وما منها إلا من قال. فأجرى من على ما لا يعقل. وهي لا تكون إلا لمن يعقل. والفواكه لا تعقل.

ولو قال: وما منها نوع إلا قال، لخلص من ذلك. وقد يعتذر له بأنه لما نزل أنواع الفاكهة منزلة العاقلين في القول، أطلق من عليها. كقوله تعالى: فقال لها وللأرض، ائتيا طوعا أو كرها، قالتا أتنا طائعين. وهذا الجمع الذي يعرب بالحروف لا يكون إلا للعاقلين. ولكنه لما نزلهما منزلة العاقلين في القول والطاعة، أعطاهما جمع العاقلين.

والجواب: ليس هذا من هذا، والفرق بين الآية الكريمة وبين كلامه، أنه في الآية الكريمة أطلق ذلك لما تقدم قولهما. فأشعر بأنهما تنزلا منزلة العاقلين.

وأما ابن الأثير فإنه أطلق من على ما لا يعقل من أول وهلة فلم يحسن. وبمثل هذا خلص المتنبي من إيراد ابن وكيع وغيره عليه، في قوله:

وكل ما قد خلق الل ... هـ وما لم يخلق

محتقرٌ في همّتي ... كشعرةٍ في مفرقي

قالوا: وفيما خلق الله تعالى، الأنبياء والرسل والملائكة. وهذا يقتضي تكفيره ويدل على زندقته.

والجواب على المتنبي أنه إنما قال وكل ما ولم يقل وكل من فإن ما لما لا يعقل على الصحيح وبهذا يخرج عنه الرسل ومن شرف قدرهم وارتفع مقامهم عن هذا، والملائكة صلوات الله عليهم وسلامه.

وكذا أورد بعض الجاهلين في قوله تعالى: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصَب جهنّم ".

فقال: وممن عبد المسيح، ولم يدر المثكل أن ما في قوله تعالى " وما تعبدون " لما لا يعقل. فيتناول الأصنام والكواكب وغير ذلك، ويخرج المسيح عليه السلام من ذلك.

[مناقشة رسالة لابن الأثير من عاشق إلى معشوق]

قال: ومن ذلك وقعة كلفني بعض أصدقائي إملاءها عليه، وهي رقة من عاشق إلى معشوق ثم أخذ ف سردها وهي طويلة افتتحها بقول القائل:

وإذا قيل من تحبّ تخطا ... ك لساني وأنت في القلب ذاكا

فلما رأيته قد صدر الرسالة ببيت أبي تمام قلت: لعل هذا البارق تكون وراءه سقيا، ويتمسك بهذه الطليعة في اللطف على عادة مخاطبة العشاق وخضوعهم وذل سؤالهم في طلب الوصال أو شكوى الهجر أو رقة العتاب في إخلاف الوعد أو الميل إلى الضد، فإنه إن كانت الرقة واللطافة والاستكانة خلقت لشيء، فما أرى أحدا أولى بها من العشاق في هذه المقامات وما أحلى قول القائل:

يدير من كفّه مداما ... ألذ من غفلة الرقيب

كأنها إذ صفت وزفّت ... شكوى محبّ إلى حبيب

<<  <   >  >>