والمنجنيقات تفوق إليهم سهام قسيها، ويخيل إليهم ساعية إليهم بحبالها وعصيها، وهي في الحصون من ألد الخصوم، وإذا أمت حصنا حكم بأنه ليس بإمام معصوم، ومتى امترى خلق في آلات الفتوح لم يكن فيها أحد من الممترين، وإذا نزلت بساحة قوم فساء صباح المنذرين، تدعى إلى الوغى فتكلم، وما أقيمت صلاة حرب عند حصن إلا كان ذلك الحصن ممن يسجد ويسلم.
قال ابن الساعاتي:
ومتى يحاول بلدةً لم يثنه ... حشد الجيوش بها ولا بعد المدى
هتمت مجانقه ثنايا سورها ... فرأيت ذاك الثغر ثغرا أدردا
[نماذج من إنشاء ابن الأثير يدعي فيها التقدم]
قال: ومن ذلك ما وصفت فيه نزول العدو على حصار بلد من بلاد المكتوب عنه وكان ذلك في زمن الشتاء، فسقط على العدو ثلج كثير صار به محصورا. فقلت: وقد عاجلته قتال البروق قبل البيارق، وأحاط به الثلج فصار خنادق تحول بينه وبين الخنادق.
والشتاء قد لقي عسكره من البرد بعسكره، والسماء قد قابلته بأغبر وجهها لا بأخضره، والأرض كأنها قرصة النفي وعسى أن تكون أرض محشره ثم أخذ في ذكر اختراع المعنى من الحديث النبوي وهو إنكم تحشرون على أرض بيضاء كفرصة النقي يريد: الخبزة البيضاء. ودندن لذلك وطنطن.
أقول: العجب منه كونه يدون هذه الأشياء ويجمعها ويوردها، ويخطب عقيب كل واحدة منها خطبة لنفسه، يدعي فيها أن البلاغة في غيره مجاز وفي كلامه حقيقة، وأنه جاء بعقود الدرر وجاء غيره بجزعة ولا يرضى أن يقول بعقيقة. وقد أوردت كتابا للقاضي الفاضل فيما تقدم أصدره من بعرين، ذكر فيه الأمطار والثلوج والخيام وأتي فيه بمحاسن ما لابن الأثير بها يدان، ولا يدور على قطبها لكاتب فرقدان.
ومن كلام القاضي الفاضل: فأما الثلوج التي وصلها ذلك البيان فأججها، بل أهداها إلى الصدور التي هي بيوت نار الشوق فأثلجها. فقد تمثلت البلاد وكأنما نشر المولى عليها عرضه، وسرني أن سر ذلك الفضاء فضه، وأراني النجوم في هذه السنة وقد ناصحت في خصبها فنزلت بأنفسها، وبرزت ظاهرة في النهار بجواريها وخنسها، وأجدر بها أن تكون سنةً تغسل وضر الكفر بصابون ثلجها، وتبشر العزمة الناصرية من هذه الرغوة بما تحتها من صريح فلجها.
ومن ذلك: وإن يكشف الله قناع الشك، تكن أحق منزلة بالترك، فلن ترى إلا محشر الحشرات بل محسر الحسرات، يومها بالهم والثلج أبلق، والمنفق فيها يقلب كفيه على ما أنفق.
ومن رسالة كتبها القاضي محيي الدين بن قرناص إلى القاضي تاج الدين ابن الأثير: وعندما سطرها متهجما، كان وجه الأفق بالغيم متجهما، وثغر حماة بالثلج متبسما، وقد ظهر عليها السكون، حيث شابت منها القرون، وكان المملوك مشرفا على مكان أحيط بثمر، والدوح يقلب كفيه على ما أنفق من عمره، وقد تزهد فتجرد من حرير أوراقه ولبس قطن زهره، فلا ترى إلا أشجارا قائمة على أصولها وكروما خاوية العروش، وسقيط ثلج كالفراش المبثوث وجبال غيوم كالعهن المنفوش.
ومن جواب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر عن هذه الرسالة: وكان توجهنا إذ ذاك حين اكتست الجبال بالثلوج، وأحاطت بنا الأنواء من كل جانب إحاطة ما لها من فروج، بفصل فتحت فيه السماء أبوابها بما ليس لجمله عن تلك المواطن فصول، ولا لخضاب الجليد الدابغ أديم الثرى المتجلد من نصول. فعدنا إلى جهة حمص وإن لم يعجبنا العام، وقلنا كل ذلك مغتفر في جنب ما أشارته مصلحة الإسلام، الشاملة منهم للخاص والعام، واستقبلنا تلك النواحي المتناوحة، والمنازل المتنائية على المراحل المتنازحة، برقة جلود تتجالد على الجليد، وأوجه تواجه من تلك الظهور ما ورود حياض المنون به إليها أقرب من حبل الوريد، كم التفت الشمس بقارا من قرها بفروة سنجاب من الغمام، وكم غمضت عينها عمن لم تطعم جفونه بتهويم ولا تطمع بمنام، وكم سبك الزمهرير فضة ثلوجها فصحت عند السبك، وكم خبر من امرىء القيس أنشد عند النبك قفا نبك. هذا والزميتا قد مدت على البلاد والعباد ملاءتها الرحيضة، وأضحت بها الأنفس قتيلة لا مريضة، كأنها وخط المشيب على المفارق، أو رمل أبيض قد ذر على سطور تلك المهارق.
وللقاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله تعالى في القطيفة عدة مفاطيع يصف بردها. منها قوله:
هذي القطيّفة الّتي ... لا تشتهى عقلا ونقلا