من مبلغ الأعراب أني بعدها ... جالست رسطاليس والإسكندرا
وسمعت بطليموس دارس كتبه ... متبديا متملكا متحضرا
وهذا بعيد أن يصدر ممن لم ينظر في كتب القوم.
وقال المعري وقد أورد لأبي الطيب قوله:
إلف هذا الهواء أوقع في الأن ... فس أن الحمام مر المذاق
والأسى قبل فرقة الروح عجزٌ ... والأسى لا يكون بعد الفراق
هذان البيتان يفضلان كتابا من كتب اليونان، لتناهيهما في الصدق وحسن النظر، ولو لم يكن له سواهما، لكفاه ذلك شرفا.
وأما ابن العميد فقد قال ابن خلكان رحمه الله تعالى في ترجمته: وكان متوسعا في علوم الفلسفة والنجوم.
قلت: والبيتان الرائيان المذكوران لأبي الطيب في مدحه يؤيدان ما قاله ابن خلكان.
وأقول: أليس هو بصاحب الصاحب بن عباد، وقد كان من رجالات المعتزلة، وله في أصولهم مصنف. ومن المستحيل أن معتزليا لا ينظر في كتب الفلسفة.
وأما ابن أبي الحديد، فقد أجابه عن دعواه أن الإنسان لا يحتاج إلى المنطق ولا إلى هذه العلوم، في الفلك الدائر. والصحيح أنه من جهل شيئاً عاداه.
[شاهد الحال ودوره في استخراج المعاني]
قال في هذا: ومما يعين على استخراج المعاني شاهد الحال.
أقول: ما أنكر أن مشاهدة الحال في الخارج تعين على تصور المعاني، إلا أن استنباط المعاني لا يفتقر فيه إلى المشاهدة، وقد جاء في الوجود جماعة من العميان الذين لم يشاهدوا الصور في الخارج، وأتوا بالتشبيهات البديعة، مثل بشار بن برد حيث قال.
كأن مثار النّفع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه
ومثل أبي العلاء المعري حيث يقول:
ولاح هلالٌ مثل نونٍ أجادها ... بذوب النّضار الكاتب ابن هلال
وحيث يقول:
ليلتي هذه عروسٌ من الزّن ... ج عليها قلائدٌ من جمان
وسهيلٌ كوجنة الحبّ في اللو ... ن وقلب المحب في الخفقان
ثم شاب الدّجى وخاف من الهج ... ر فغطى المشيب بالزعفران
وله أشياء كثيرة من التشبيه الغريب.
ومثل أبي البقاء العكبري حيث يقول:
وغديرٍ رقت حواشيه حتى ... بان في قعره الذي كان ساخا
وكأن الطيور إذ وردته ... من صفا مائه تزق فراخا
وما أحلى قول أبي طاهر حيدر في مثل هذا:
وضاحيةٍ وردت بها غديرا ... يقدّر من صفاء الماء أرضا
كأنّ الوحش حيث تغب فيه ... يقبل بعضها للشوق بعضا
ومثل جماعة تقدموا من الأضراء كأبي العيناء وابن سيده صاحب المحكم، والشاطبي رحمه الله، وغير هؤلاء ممن أتى بالغرائب، ولم يستعينوا بحاسة البصر.
فإن قلت: إن هؤلاء إن كانوا ما رأوا ولا شاهدوا، فقد سمعوا ما قاله غيرهم، وشبهوا كما شبه غيرهم. قلت: ما نازعتك في ذلك، وإنما أردت أن التشبيه لا يفتقر إلى الصورة الخارجة. فإن الناظم قد يتصور المعنى في ذهنه من عير أن يشاهده في الخارج، ويولد المعنى من معنى آخر. كقول ابن المعتز.
وأرى الثريّا في السماء كأنها ... قدمٌ تبدّت من ثياب حداد
فإنه ولد هذا المعنى من قول الآخر:
كأن كؤوس الشّرب والليل مظلمٌ ... وجوه عذارى في ملاحف سود
وكما قال ابن الذروي وقد ذكر أهل النوبة في مدح صلاح الدين:
سودٌ وتحمرّ الظبى حولها ... كأعين الرّمد بدت للأساه
أو لا فسمرٌ تنتحيها القنا ... مثل دنانٍ بزلت للسّقاه
فإنه ولد هذا المعنى الأول من قول الأرجاني:
وكأنّ كلّ شقيقةٍ محمرةٍ ... كحلت محاجرها بأحمر قان
عينٌ لإنسان وقد رمدت فما ... يبدو لرامقها سوى الإنسان
وولد المعنى الثاني من قول أبي العلاء المعري في تشبيه البرق:
إذا ما اهتاج أحمر مستطيرا ... حسبت الليل زنجيا جريحا
ولعمري لقد تصرف في هذا التشبيه الثاني تصرفا حسنا.
وكما ولدت أنا من قول الحصري:
الناس كالأرض ومنها هم ... من خشن اللمس ومن ليّن
مروٌ تشكّى الرجل منه الأذى ... وإثمدٌ يجعل في الأعين
فنقلته إلى معنى المتنبي المشهور وقلت: