فالحمد لله على أن صبحتهم عزائم المجلس بالويل، وعلى أن أولج النهار من السيف منهم في الليل، وعلى أن رد حرب حرابهم إلى نحورهم، وجعل تدميرهم في تدبيرهم، وبين خط السيف الأبيض من الخيط الأسود من فجر فجورهم، وأطلع على مغيبات النصر ذهن المجلس الحاضر، وأورث سليمان الزمان المؤمن ملك داوود الكافر، وقرن النصر بعزم المجلس الأنهض، وأهلك العدو الأسود بميمون طائر النصر الأبيض، وكيف لا وآقسنقر هو الطائر الأبيض. وأقر لأهل الصعيد كل عين، وجمع شملهم فلا يرون من عدوهم بعدها غراب بين، ونصر ذوي السيوف على ذوي الحراب، وسهل صيد ملكهم على يد المجلس وكيف يعسر على السنقر صيد الغراب؟. والشكر لله على إذلال ملكهم الذي لان وهان، وأذاله ببأسه الذي صرح به شر كل منهم في قتاله فأمسى وهو عريان، وإزهاقهم بالألسنة التي غدا طعنها كفم الزق غدا والزق ملآن، ودق أقفيتهم بالسيف الذي أنطق الله بفاله أعجم الطير فقال: دق قفا السودان.
ورعى الله جهاد المجلس الذي قوم هذا الحادث المنآد، ولا عدم الإسلام في هذا الخطب سيف الذي قام خطيبا وكيف لا وقد ألبسه منهم السواد، وشكر له عزمه الذي استبشر به وجه الزمن القطوب، وتحققت بلاد الشمال به صلاح بلاد الجنوب، وأصبحت به سهام الغنائم في كل جهة تسنهم، ومتون الفتوحات تمتطى فتارةً يمتطي السيف كل سيس وتارةً كل أدهم، وحمد شجاعته التي ما وقف لصدمتها السواد الأعظم.
ولله المنة على أن جعل ربوع العدو بعزائم المجلس حصيدا كأن لم تغن بالأمس، وأقام فروض الجهاد بسيوفه المسنونة وأنامله الخمس، وقرن ثباته بتوصيل الطعن لنحور الأعداء ووقت النحر قيد رمح من طلوع الشمس. ونرجو من كرم الله إدراك داوود المطلوب ورده على السيف بعيب هربه والعبد السوء إذا هرب يرد لا محالة بعيب الهروب.
والله يشكر تفصيل مكاتبات المجلس وجملها، وآخر غزواته وأولها، ونزال مرهفاته ونزلها، ويجعله إذا انسلخ نهار سيفه من ليل هذا العدو يعود سالما إلى مستقره والشمس تجري لمستقر لها.
أثبت هذا الكتاب بمجموعه لما فيه من النكت المطربة، والتوريات المغربة. وللقاضي محيي الدين رحمه الله تعالى في هذه الواقعة بيتان، وقيل لابن النقيب. وهما:
يا يوم دنقلةٍ وقتل عبيدها ... في كلّ ناحيةٍ وكلّ مكان
من كلّ نوبيٍّ يقول لأمّه ... نوحي فقد دقوا قفا السّودان
[في التخلص والاقتضاب]
قال في النوع الثالث والعشرين في التخلص والاقتضاب، وقد أورد قول أبي تمام من جملة أبيات:
لا والذي هو عالمٌ أنّ النوى ... أجلٌ وأنّ أبا الحسين كريم
ثم قال: وهذا خروج من غزل إلى مديح.
أقول: المشهور في هذا البيت أن أبا تمام قاله:
لا والّذي هو عالمٌ أنّ النوى ... صبرٌ ...
وما رأيت من أورده كذا، ولا وقفت عليه في ديوان على كثرة النسخ به إلا وهو مثبت كما ذكرته. وأما أرباب البلاغة، فقد ذكروا البيت وعدوه من العيوب، لأنه لا مناسبة بين الصبر والكرم. ولو قيل: إن الزمان بخيل وأبا الحسين كريم، أو يقول إن النوى صبر وإن الوصال شهد، كان مناسبا. وما ذكره أحد فيما علمت إلا وعده عيباً، وهذا عده من المحاسن ومثل به وغير لفظه. والعدالة غير هذا، وليته أصلحه لما غيره.
ولا بأس بإيراد نبذ مما جاء للشعراء في هذا النوع. من ذلك قول المعري أبي العلاء وقد ذكر النوق:
سألن فقلت مقصدنا سعيدٌ ... فكان اسم الأمير لهنّ فالا
وقول مسلم بن الوليد:
يقول صحبي وقد جدّوا على عجلٍ ... والخيل تستنّ بالرّكبان في اللّجم
أمطلع الشّمس تبغي أن تؤمّ بنا ... فقلت: كلاّ ولكن مطلع الكرم
وقد أخذه أبو تمام أخذا وفلذه فلذا فقال:
أمطلع الشمس تبغي أن تؤمّ بنا ... فقلت: كلاّ ولكن مطلع الجود
وأخذه الغزي أيضاً، وسبكه فلبكه إذ قال:
تقول إذا حثثناها وظلّت ... تناجينا بألسنة الكلال
إلى أُفق الهلال مسير ركبي ... فقلنا: بل إلى أُفق النّوال
وقول علي بن الجهم:
وليلةٍ كحلت بالنقس مقلتها ... ألقت قناع الدّجى في كلّ أُخدود