وأقول: إنه نفخ في غير ضرم، وطاف بغير حرم، وليس ذلك بكبير أمر، ولا مما ينبه عليه بعد الفراغ منه، بل هو في الرتبة الوسطى لا ينحط انحطاطه في عادته، ولا يرتفع ارتفاع القاضي الفاضل.
وقد استعمل الناس أسماء المنازل والكواكب في كلامهم جدا وهزلا، كقول سيف الدين المشد ابن قزل:
ضلّ فؤادي بين أبياتكم ... وناره تضرمها الأهويه
يا ذابح النوم بطرفي أما ... ترثي لقلبٍ ضل في الأخبيه
وقوله أيضاً:
ألا يا وادي الشقرا ... ء كم قد حزت من نزهه
غياضٌ ماؤها يجري ... فما في طيبها شبهه
وكم بدرٍ يروق الطر ... ف أضحى منك في الجبهه
وقوله أيضاً:
بدا في الدرع مثل الرم ... ح في الأعطاف والسمره
فيا لله من بدرٍ ... يروق الطرف في النثره
وقول العدل برهان الدين بن الفقيه نصر:
بخدمتكم لم أنل طائلا ... وميزان نقصي بكم راجح
ففي الطرف من أدمعي نثرةٌ ... وفي القلب من سعدكم ذابح
ومن أحسن الكنايات قول الآخر:
ألم ترني أكابد فيك وجدي ... وأحمل منك ما لا يستطاع
إذا ما أنجم الجو استقلّت ... ومال الدلو وارتفع الذراع
وقول محمد سبط التعاويذي:
فبتّ وباتت إلى جانبي ... نعدّ المنازل فيها كلانا
تريني البطين ولكنني ... أقارضها فأريها الزبانى
وقول الآخر من أبيات:
فأعجلته عن دخول الكنيف ... بجهلٍ مطاعٍ وحلمٍ مطاع
فغرّقت منه بنوء البطين ... وروّاه مني نوء الذراع
وأما قوله: وليت لو فدي أحدهما بصاحبه، أحسن من هذا قول المتنبي:
فليت طالعة الشمسين غائبةٌ ... وليت غائبة الشمسين لم تغب
وتمام السجعة نصف بيت من هذه القصيدة لأبي الطيب، أول:
قد كان قاسمك الشخصين دهرهما ... فعاش درهما المفديّ بالذهب
قال: ومن هذا الباب ما أوردته في رسالة طردية في وصف قسي البندق وحامليها ثم إنه ساقها.
أقول: وهي أيضاً من الوسط، فلا تكون في العالي ولا السقط، وذكرت بالطريق التي سلكها فيها ما جاء لبعض كتاب العجم فيما أظن، في القوس التي للسهام، فإنها في حسنها فذة، ونكتها في سلب العقول مغذة، وصناعتها لم تدع في المثاني والمثالث عند النفوس بعدها لذة. وهي:
[رسالة لابن الأثير في وصف قسي البندق وحامليها]
ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا، حكيم جبل على السداد، يهدي إلى سبل الرشاد، آثار بأسه مشهورة على ذوي الأعواد ويسألونك عن الأهلة، فقل صفر من غير علة، مجرة تنقض منها نجوم الرجوم، برج ذو جسدين يطلع بالطائر المشؤوم، شيطان تطلع شمس النصر بين قرنيه، مارد لا يسكن إلا بتعريك أذنيه، صورة مركبة ليس لها من تركيب النظم، إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم. مطية تخالف سائر الأنعام، قيامها باليد وقيامهن بالأقدام. متحرك يعض على ناجذ التصبر في الشدة والرخاء، من صحبه طرفة عين مشى على الهواء، فقل في نون التقم مرسلا فنبذه بالعراء. مقيد يحمل عليه المطلق، طريد العنق من جيد عاتقه معلق. ناحل ألصق بطنه بظهره، حتى بدت للناظرين بنات صدره، وغارت كلاه في خصره، لاستيلاء قوتيه الجاذبة والماسكة على قوتيه الدافعة والهالكة. مقبوض يقارب السريع، ويفارقه عند التقطيع. وهري أتى عليه قرن بعد قرن فانحنى مطاه، لا ينصب إلا على اليد متكاه، وينشد إذا فتح فاه:
سلبت عظامي لحمها فتركتها ... مجردةً تضحي لديك وتحصر
خذي بيدي ثم اكشفي الثوب تنظري ... ضنى جسدي لكنني أتستّر
منحني الظهر يتوكأ على عصا، ويلقيها فإذا هي حية تسعى.
تنكب رماح الخط والبيض خلها ... وأما الحنايا حلّها وتنكبا