فأصبح يلقاني الزمان من آجله ... بإعظلام مولود ورأفة والد
أقول: أما قطع همزة الوصل فإنه معذور فيها إذا عدها عيبا، وهي عندي كمد المقصور في القبح. ووصل همزة القطع أراها كمد المقصور وهي أحسن. وذلك أنك تنقل الأثقل إلى الأخف فيهما بخلاف ذينك فإنك تنقل الأخف إلى الأثقل.
وأما جعله قول أبي تمام من أجله مما لا يجوز إلا في الشعر فقط، فليس الأمر كذلك، وهذا من باب النقل، وقراء التجويد يعرفون ذلك ولا يسمونه وصل الهمز، بل نقل الحركة من المتحرك إلى الساكن كقوله تعالى " ولوَ انهم صبروا " فإن واو لو ساكنه، فإذا أرادوا النقل نقلوا حركة الهمزة التي تليها إليها. قالوا: " ولوَ انهم " وهذا مشهور ظاهر لا ينكر.
وقرأوا قوله تعالى: " منَ اجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل " بنقل حركة الهمزة إلى النون في من وهذا مثل قول أبي تمام.
وإذا كان هذه القاعدة مطردة في القرآن جميعه من أوله إلى آخره، كيف يمنعه ويجعله من ضرورات الشعر والمعاظلة في الألفاظ.
نعم يقبح في مثل قول المتنبي:
يوسّطه المافوز كلّ يومٍ ... طلاب الطالبين لا الإنتظار
وقوله أيضاً: وشدة الظن لا الاستدلال فإنه وإن كان على القاعدة فإنه مستثقل كما تراه.
؟ الصناعة المعنوية قال في المقالة الثانية في الصناعة المعنوية وقد ذكر حكم اليونان وعلومهم إن أبا نواس ومسلم بن الوليد وأبا تمام والبحتري وأبا الطيب وغيرهم كعبد الحميد وابن العميد والصابي لم يتعلموا من كتب اليونان شيئاً وجاؤوا بما جاؤوا به ثم إنه مثل بنفسه وإنه لم يراع ذلك وجاء بما جاء به، وادعى هنا ما ادعاه لنفسه.
أقول: إنني ما المشاحة هنا إلا في حكمه أن هؤلاء ما اشتغلوا بشيء من ذلك. فأقول له: من أين عملت هذا حتى تحكم به؟ أما دعواك لنفسك فما أعارضك فيها، لأن الناس أخبر بنفوسهم، وأما أبو نواس فقد قيل: إنه كان يشتغل بالفقه حتى قيل فيه: أبو نواس فقيه غلب عليه الشعر، والشافعي شاعر غلب عليه الفقه. ومع ذلك فلم يظهر عنه فقه، كما لم يظهر عنه اشتغال بعلوم اليونان. وعدم الدليل لا يدل على عدم المدلول.
على أنه كان في زمن الرشيد والأمين والمأمون، وهذه العلوم اشتهرت في أيامهم، خصوصا في زمن المأمون، فإنه رتب الذهب لمن يحل كتب اليونان من اليونانية إلى العربية مثل حنين بن إسحق، وابن بختيشوع وغيرهما.
ألا ترى أبا نواس قال:
فقل لمن يدّعي في العلم فلسفةً ... حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء
فإن قلت: هذا مما يدل على رفضه لهذه العلوم وتركه إياها، قلت إنما قال هذا في سياق أبيات يغري فيها بالسكر ودفع الخمار بالخمر والإدمان لذلك، والانهماك في اللذات ومواصلة الشراب ومجالس الأنس، حتى انتهى إلى قومه هذا البيت ردا على القائلين بالحكمة، وأن الأخذ من الشراب كثيراً محرم عقلا، وأن الاكثار من ذلك مضر من حيث الطب. فأخذ يسفه الحكيم في رأيه ويقول: حفظت شيئاً من الحكمة، وغابت عنك أشياء في إدمان الشراب من اللذاذات والابتهاج على عادة الشعراء في الإغراء.
ثم إنه قال فيها:
لا تحظر العفو ان كنت امرءا حرجا ... فإنّ حظركه بالدين ازراء
وهذا على عادة الشعراء في مجونهم، وإنما أبو نواس أكثر من الشعر فدون عنه، ولم يضع هو تلك العلوم شيئاً، لا جرم أنه لم يظهر عنه شيء.
وقول أبي نواس:
أباح العراقي النبيذ وشربه ... وقال: حرامان المدامة والسكر
وقال الحجازي: الشرابان واحدٌ ... فحلّت لنا من بين قوليهما الخمر
سآخذ من قوليهما طرفيهما ... وأشربها لا فارق الوازر الوزر
فمن أنعم النظر في هذه الأبيات، علم أن أبا نواس كان منطقيا، فإن استنتاجه حل الخمر في مقدمتي كلام الفقيه العراقي والحجازي يدل على ذلك. وهذا على عادة مجاز الشعر وإلا فالصحيح حرمة الخمر.
[هل صح اطلاع بعض الشعراء والكتاب]
[على حكم اليونان وعلومهم]
وأما أبو الطيب فقد قال: أنا وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري، وكلام هذين الشاعرين يدل على أنهما ما عريا عن شيء من علوم الفلسفة. خصوصا المتنبي والحاتمية تدل على أنه كان ينظر في كلاما قوم. ألا ترى قوله يمدح ابن العميد: