أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل كلام لايبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم فلو قال: الحمد لله لكان أفضل. وربما عيب ذلك على الزمخشري في أول المفصل كونه قال: الله أحمد. وعلى الحريري كونه قال: اللهم إنا نحمدك. لأنهما ما افتتحا كلامهما بالحمد. والأولى الأخذ بما جاء عن الله تعالى، فإنه لا مقام للعبد أشرف من الصلاة لأنها عبادة. حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرب ما يكون من العبد من ربه وهو ساجد. والفاتحة التي هي أم الكتاب والعمدة في الصلاة، إنما افتتحت ببسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين. وقد قال سهل بن هارون: حق على كل ذي مقالة أن يبدأ فيها بحمد الله قبل استفتاحها، كما بدىء بالنعمة قبل استحقاقها. واستعمل ابن الأثير رحمه الله تعالى ذلك في توقيع كتبه فقال: كل كلام لا يبدا فيه بحمد الله فهو أجذم. وقد أورد ابن أبي الحديد على ابن الأثير فيما سأله في هذه السجعة ما فيه مقنع، فليؤخذ ذلك من الفلك الدائر.
وأما السجعة الثانية، فما أدري معنى قوله تقصر عنه مزية النطق، فأي شيء يعلمه حتى تقصر عنه مزية النطق؟ إن أراد بذلك لطف المعاني التي هي أرواح الألفاظ فمتى قصر النطق عن معنى لم تبرزه النفس كاملاً؟ وإن أراد بذلك الأشياء التي تكون على تراكيب الألفاظ من الطلاوة والرونق ذلك غير البيان لأن البيان إيضاح المعاني وإبداؤها وإظهارها، وذلك الذي أردته من الحسن واللطف اللذين يكونان في بعض الكلام، فذلك غير البيان. وهو كالملاحة التي لا يعقل لها معنى ولا يعبر عنه. كما قيل:
شيء به فتن الورى غير الذي ... يدعى الجمال ولست أدري ما هو
ويقال: مع المحبوب شيء آخر غير حسنه هو الذي يشفع له إلى القلوب. ألا ترى أن بعض الصور مفردات أعضائها نهاية في الحسن، وليس لها ذلك المعنى الذي لغيرها. وكذا قيل في الترياق، إنه بعد التركيب يفيض الله عليه خاصة لم تكن في قوة أجزائه حالة الإفراد. والهيئة الاجتماعية لها معنى غير الحالة التي تكون لأفرادها ولا شك أن لكلام الفصحاء في حالة التركيب خواص لا يمكن التعبير عن ذلك الحسن الموجود فيها. ولهذا أفتى الفقهاء فيمن بدل ترتيب الفاتحة، وقلب بعض الآيات إلى موضع بعض أنه لا تصح صلاته، لأنه يبطل إعجاز القرآن العظيم، وهو سياقته على هذا النمط الغريب، وتأليفه على هذا النظم العجيب. وهنا بحث بين الأشعري والمعتزلي، أضربت عنه طلباً للاختصار. فإن كان ابن الأثير سأل هذه الخاصة، فهذه الخاصة لا يطلق عليها لفظ البيان. وإذا كان الأمر كذا، فقد ثبت أن معنى هذه السجعة غير مفهوم. وقد ناقشه ابن أبي الحديد في قوله النطق وما الذي أراد به فليؤخذ من كتابه.
قال: وعلى آله وصحبه، الذين منهم من سبق وبدر، ومنهم من صابر وصبر، ومنهم من آوى ونصر. وأقول: لو قال: ومنهم من هاجر ونصر لكان أحسن من وجهين: أحدهما أنه يحصل له الموازنة والترصيع بين هاجر وصابر، وثانيهما أنه يتناول المهاجرين والأنصار من الصحابة رضوان الله عليهم، فإنهم مقدمون على الأنصار، وعلى قوله لا ذكر للمهاجرين، فإن من الأنصار من سبق غيره إلى الإيمان.
فإن قيل: قوله صابر وصبر المعنى واحد، قلت: اتبع لفظ القرآن في قوله تعالى: اصبروا وصابروا. فإن الصبر غير المصابرة، لأن المصابرة مفاعلة، وهي مقابلة الفعل من الآخر بمثله. وكأن ذلك زيادة على الصبر الذي يطيقه الإنسان.
[عجز الحريري عن إنشاء ما طلب منه]
[في الديوان]
قال وقد ذكر الحريري المقامات رحمه الله تعالى، وأنه صدر عنه مثل هذا الكتاب، ولما استكتب في الديوان أفحم. وساق الحكاية المشهورة. ثم قال: وهذا مما يعجب منه، وسئلت عن هذا فقلت: لا عجب، لأن المقامات مدارها جميعها على حكاية تخرج إلى مخلص، وأما المكاتبات فإنها بحر لا ساحل له، لأن المعاني فيها تتجدد بتجدد حوادث الأيام، وهي متجددة على عدد الأنفاس، ألا ترى أنه إذا كتب الكاتب المفلق عن دولة من الدول الواسعة التي يكون لسلطانها سيف مشهور وسعي مذكور، ومكث على ذلك برهة يسيرة لا تبلغ عشر سنين، فإنه يدون عنه من المكاتبات ما يزيد على عشرة أجزاء، كل جزء منها أكبر من المقامات حجماً، ثم إذا غربلت خلص منها النصف.