أقول: أما عجب الناس من واقعة الحريري فهي موضع العجب في بادىء الرأي. لأن من يصدر عنه مثل هذا الكتاب الذي لا نظير له في بابه، وهو في الآداب:
شمس ضحاها هلال ليلتها ... درّ تقاصيرها زبر جدها
ثم يتوقف في كتاب يطلب منه فإن ذلك غريب. وأما إذا فكر الإنسان، وعلم أن الإنشاء من باب الفتوح على الإنسان، لم يكن ذلك بعجيب. لأن الله تعالى قد يفتح بذلك في وقت دون وقت. وقد عد الشيخ محيي الدين بن عربي النظم وحسن الكتابة من الفتوح، وما يزال الناس كذلك تارة يفتح عليهم وتارة لم يفتح. والحريري في ذلك الوقت لم يفتح عليه.
على أن الحريري في وقت عمل المقامات كان في بيته مخلى ونفسه، يصوغ ويكسر ويهدم ويبني فإذا نبا به مقام تحول إلى غيره، وإذا تقاعس عليه معنى تركه وجذب ما هو أسلس قياداً منه. وقد ذكر أن مسودات المقامات كانت حمل جمل. وذلك أمر غير جلوسه في الديوان وأول قدومه، وهو بين جماعة من أرباب الفن، ويقترح عليه معنى لا محيد له عنه، ولا فسحة له في مضيقه، ولا نجاة له من زلله، ولم يكن قد استعد له، لا جرم أنه أفحم وتوقف ونتف عثنونه.
وليس يعاب المرء في جبن يومه ... إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس
ولعل ابن الأثير سامحه فيما أورده من كلامه في المثل والوشي المرقوم والمعاني المبتدعة وغير ذلك من نسبة المقامات. فإنه حكى عن نفسه في المثل السائر أنه كان يتلو القرآن العظيم، فإذا مرت به الآية الكريمة ولمح فيها معنى يناسب أن يكون في كذا، بنى عليه كتاباً أو فصلاً وأثبته. أو كما قال. وغالب ما أثبته إنما هو معارضات عارض بها كتب القاضي الفاضل وأبا إسحاق الصابي وهذا من باب عمل المقامات وهو في بيته يطالع على ما يعمله ويتروى ويمحو ويثبت.
وتوهموا اللعب الوغى، والطعن في ال ... هيجاء غير الطعن في الميدان
وأما قوله: إن الكاتب يظهر عنه في المدة التي ذكرها عشرة أجزاء كل جزء أكبر حجماً من المقامات وإذا غربلت ونقحت كانت خمسا، فهذا تعصب ودعوى لا يقوم عليها برهان، أو جهل بلغ الغاية. وأي ترسل لكاتب تقدم عصره وإلى الآن يجمع له من ترسله مجلدة واحدة تكون كالمقامات يتداولها الناس، ويتعاطون كؤوسها، ويتمثلون بأبياتها وأسجاعها، ويكررون عليها من أولها إلى آخرها، ويبحثون عن عوراتها، وينقبون عن مساوئها، فلا يجدون فيها مغمزاً، ولا يقعون فيها على مطعن. بل تصفوا على السبك، وتجود على الاستعمال.
ويزيدها مرّ الليالي جدةً ... وتقادم الأيام حسن شباب
على أن ابن الخشاب رد عليه أليفاظاً يسيرة وأجابه المسعودي عنها وابن الخشاب أصاب في القليل من القليل، وتعنت في كثير القليل. وكذلك ابن بري وضع عليها نكتا يسيرة.
وناهيك بكتاب اشتهر، وضرب به المثل، وأصبح إحدى الأثافي في علم الأدب، وأصبحت ألفاظه ومعانيه حجة، ونقلت بها النسخ عدد حروفها.
وسار مسير الشمس في كل موضعٍ ... وهبّ هبوب الريح في البر والبحر
وما رأيت ولا سمعت بمن أخذ جزءاً من ترسل، وقرأه على شيخ وحفظه وطلب به الرواية وعلق عليه حواشي لغة وإعراب ومعان. وقد وضع الناس الشروح المبسوطة على المقامات مثل المسعودي فإن له عليها شرحين، والمطرز وابن الأنباري وأبي البقاء وغيرهم ولقد رأيت بعضهم يزعم أنها رموز في الكيمياء، ويحكى أن الفرنج يقرؤونها على ملوكهم بلسانهم ويصورونها ويتنادمون بحكاياتها.
وما ذاك إلا أن هذا الكتاب أحد مظاهره تلك الحكايات المضحكة، والوقائع التي إذا شرع الإنسان في الوقوف عليها، تطلعت نفسه إلى ما تنتهي إليه، وتشوقت نفسه إلى الوقوف على آخر تلك القصة. هذا إلى ما فيها من الحكم والأمثال التي تشاكل كتاب كليلة ودمنة وإلى ما فيها من أنواع الأدب وفنونه المختلفة وأساليبه المتنوعة.
حكى لي الشيخ فتح الدين محمد بن سيد الناس عن والده أبي عمرو عن أبيه أبي بكر قال: قلنا لابن عميرة كاتب الأندلس: لأي شيء ما تصنع مثل المقامات؟ فقال: أما الألفاظ فما أغلب عنها، وأما تلك الأكاذيب التي تكذبها فما أحسن أن أضع مثلها.