لم أورده اختيارا له، وإنما مثلت به ليعلم توكيد المنفصل بالمنفصل. وإلا فالبيت ليس بالمرضي لأن سبكه سبك عار من الحسن.
أقول: فليت شعري أي طلاوة على قوله هو: أما أبو تمام فإنه خاطب نفسه كالمنكر ما كان منه في شغفه بتلك الديار التي وقف عليها بعد سلوه وتقضي أوطاره. وحق له أن يقول: لا أنت ذاك الذي كنت أولا، ولا هذه الديار تلك التي كانت أولا. يعني كأن نفسه أصبحت غير تلك والديار بدلت بصفة أخرى.
وما أحسن قول الحظيري الوراق:
تركتك فامض إلى من تحبّ ... ففعلك برّد نار الجوى
وقبّحك الغدر في ناظريّ ... وغودر عود الهوى قد ذوى
وصرت أراك بعين السلوّ ... وكنت أراك بعين الهوى
ومن المعلوم أن العين ما تغيرت في ذاتها، ولا كانت ثم عين وبدلت غيرها. إنما السلو أوجب أن يريه بعين القبح، والحب أوجب أن يريه بعين الحسن.
ومن هذا قول....
وعين الرضى عن كل عيبٍ كليلةٌ ... كما أن عين السّخط تبدي المساويا
وهذا دائر على ألسنة الناس. يقولون في من يتغير عليهم منه صفة من الصفات: كأنه راح وجاء غيره. وهذا من أبي تمام في غاية الحسن في بابه.
وأما قول أبي الطيب، فتحته من المعنى ما يكسوه حسنا فائقا، لأن هذا من أمدح ما يكون للقبيلة التي ذكرها، لأنه قال: قبيلة أنت منهم، وأنت أنت، معناه: فيا لها من قبيلة لأنها أنت منهم وأنت ذاك العظيم. فأخر المعطوف عليه عن المعطوف كقوله:
... ... ... ... عليك ورحمة الله السلام.
وقدرة الشيخ تاج الدين الكندي تقديرا آخر، وهذا أحسن مع الضرورة التي فيه وكأن ابن الأثير رحمه الله، لمح معنى الأبيات التي وردت لبعض شعراء الذخيرة لابن بسام وهي:
أصبحت رمةً تزايل عنها ... فصلها الجوهريّ والعرضيّ
وتلاشى كيانها الحيواني ... وأودى بيانها المنطقيّ
وقوى عقله الثلاث تلاشت ... إن ذا كله لأمرٌ خفيّ
والحواس الخمس التي كنّ فيه ... ولإدراكهنّ فعلٌ وحيّ
ذهبت تلكم الصفات جميعاً ... ومحالٌ أن يذهب الأزلي
فأراد أن يأتي بهذا المعنى فأفسده، وهدم ما جاء به هذا الشاعر وشيده. وبعض الناس يدعي أن هذه الأبيات للرئيس أبي علي بن سينا، وابن بسام أثبتها في الذخيرة لبعض المغاربة. ولكن قصيدة الرئيس في النفس التي أولها:
هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تّعزّزٍ وتمنع
في غاية الحسن، وما لأحد مثلها في بابها، وشهرتها تمنع من سردها. وقد اعتنى بها الفضلاء وخمسوها وشرحوها.
وما أحسن قوله وقد ذكرها عند الموت:
وكأنها برقٌ تألّق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع
[نماذج من إنشاء ابن الأثير والنقاش حولها]
قال: ومن ذلك ما ذكرته في وصف كلام بالفصاحة، وهو فصل من كتاب فقلت: وله البيان الذي يفض من نسق الفريد ولا تخلق نضرة لباسه الجديد، وهو فوق الكلام المجيد، ودون القرآن المجيد.
أقول: ما رأينا من مدح كلاما ولا قرظه بمثل هذا. وفي أفانين المديح وضروب الثناء عن ذلك مندوحة، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم. ومع هذا فما سمعت أحدا مدح آخر فقال له: أنت دون النبي عليه السلام. لأن لفظة دون وأقل وتحت ما تستعمل في جانب الممدوح. وكلام الله تعالى قد تقرر وثبت أنه ليس في قدرة البشر أن يأتوا بسورة منه، فكل كلام دونه.
فقوله: كلام دون القرآن المجيد لا معنى تحته لأنه من باب تحصيل الحاصل. ومثل هذا عند الشيخ جمال الدين بن مالك ومن تابعه، لا يطلق عليه كلاما لأنه ما أفاد فائدة تامة لم تكن عند المخاطب كقولك: السماء فوق الأرض لأنه معلوم عند كل أحد. فإن قلت: أراد بذلك الأدب. قلت ما ضاق المجال عليه، ولا حصره ضيق المقام إلى هذا حتى يحتاج أن يأتي بما يحترز فيه. وما أوقعه في ذلك إلا لفظة المجيد والمجيد وطلب الجناس.
قال: وإذا اختصروا صفة قال: إنه يستميل سمع الطروب، ويستخف وقار القلوب ويتمثل آيات بيضا من غير ضم إلى الجيوب، ويرى في الأرض غير لاغب إذا مس غيره فتنة اللغوب.