فأُقسم لو أبصرتني عند موتها ... وجفني يسحّ الدّمع سجلا على سجل
رثيت لنصلٍ يأخذ الموت جفنه ... وأُعجبت من فرعٍ ينوح على أصل
وقد تحسن هذه الكناية من الشريف الرضي في باب التهكم وتكون نهاية في الحسن. وعلى الجملة فقبح الكناية التي ذكرها ليس لذاتها بل لأمر عرض عليها على أنه قد أورد بعدها قول الفرزدق يرثي امرأته:
وجفن نصالٍ قد رزئت فلم أنح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا
وقال: هذا حسن بديع في بابه، وما كني عن امرأة ماتت بجمع أحسن من هذه الكناية ولا أفخم شأنا.
فيقال له: أي شيء حسن هذه وقبح تلك؟
[حول المغالطات المعنوية]
قال في النوع العشرين في المغالطات المعنوية: فمنه ما كتبته في فصل من كتاب عند دخولي إلى بلاد الروم أصف فيه البرد والثلج: ومن صفات هذا البرد أنه يعقد الدر في خلفه، والدمع في طرفه، ولربما تعدى إلى قليب الخاطر فأحقه أن يجري بوصفه، والأرض شهباء غير أنها حولية لم ترض، ومسيلات الجبال أنهار غير أنها جامدة لم تخض.
أقول: ثم إنه أخذ يصف مكان الحسن في قوله: حولية ولم ترض. وأي كبير حسن في هذا حتى يدونه ويستشهد به. ولكنه معذور إذا وقع في كلامه تورية أن يخطب لها، فكيف به لو قال مثل القاضي الفاضل يصف البرد: في ليلة جمد خمرها، وخمد جمرها، إلى يوم تود البصلة لو ازدادت إلى قمصها، والشمس لو جرت النار إلى قرصها.
وقد نظم هذا الجلال بن الصفار فقال:
ويوم قرٍّ برد أنفاسه ... تمزق الأوجه من قرصها
يومٌ تودّ الشمس من برده ... لو جرّت النار إلى قرصها
ومن كلام الفاضل في ليلة كثيرة البرد: في ليلة جمد الماء في لبابيدها حتى ثقل متنها، وانعكست القاعدة في التشبيه حتى صار كالجبال عهنها.
وقال الصاحب جمال الدين ابن مطروح:
انظر تجد وجه البسيطة أبيضا ... لم تبد فيه شامةٌ سوداء
كرم السّحاب فعمّ بالثلج الثّرى ... إنّ الكريم له اليد البيضاء
وقال: مجير الدين محمد بن تميم:
دنياك مذ وعدت بأنك لم تزل ... في نعمةٍ وسعادةٍ لا تنقضي
كان الدليل على وفاها أنها ... أضحت تقابلنا بوجهٍ أبيض
وقال مجير الدين أيضاً في البرد:
وليلةٍ قرةٍ قد هبّ فيها ... نسيمٌ لا تقابله الصدور
نسيمٌ يقشعرّ الرّوض منه ... إذا وافى ويرتعد الغدير
ثم قال: ومن ذلك ما ذكرته في وصف كريم فقلت: ولقد نزلت منه بمهلبي الصنع، أحنفي الأخلاق، ولقيته فكأني لم أرع بلوعة الفراق، ولا كرامة للأهل والوطن حتى أقول استبدلت به أهلا ووطنا، وعهدي بالأيام وهي من الإحسان فاطمة فاستولدها بجواره حسنا ثم أخذ في الثناء على ذلك.
أقول: غاية ما ذكره أنه استعمل اسم فاطمة والحسن رضي الله عنهما تورية وليس هذا بعظيم.
وما أحسن ما استعمل القاضي الفاضل اسم الحسن، فقال يخاطب قوما أشرافا: السعيد من أشبه حديثه قديمه السعيد، والشرف القديم مقطوع إن لم يصله الشرف الجديد، والغصن من الدوحة العريقة وإن لم ينم كان من الحطب، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان عمه أبا لهب، وقبيح أن يكون فعلكم القبيح وجدكم الحسن. وأن يكون أولكم قاتل حتى لا تكون فتنة وتقاتلون حتى تكون الفتن.
وما أحسن قول أبي الحسين الجزار يمدح سيف الدين علي بن قليج من جملة قصيدة في ذكر الزمان:
وإني لمعتادٌ لحمل خطوبه ... إذا كلّ أو أعيى من الهمّ حامله
أقول لفقري: مرحبا لتيقّني ... بأنّ عليا بالمكارم قاتله
كذا تكون التورية، وكذا يكون تحيل التخيل.
ومما اتفق لي نظمه:
أقول لشادٍ تغنّى لنا ... وقد قرّح الدّمع أجفان عيني
ايا حسن الوجه رجّع وخذ ... بصوتٍ عليٍّ لنا في حسيني
ثم قال: ومن هذا الأسلوب ما كتبته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان فقلت: وعهده بقلمي وهو يتحلى من البيان بأسمائه، ويبرز أنوار المعاني من ظلمائه، وقد أصبحت يدي منه وهي حمالة الحطب، وأصبح خاطري أبا جهل بعد أن كان أبا لهب.