للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أقول: قد استعمل القاضي الفاضل مثل هذا كثيراً، ولهج المتأخرون بمثل هذا فأتوا فيه بالطم والرم. قال ابن النبيه:

لو لم تكن إبنة العنقود ريقته ... لما غدا خدّه القاني أبا لهب

تبت يدا عاذلي فيه ووجنته ... حمالة الورد لا حمالة الحطب

وقال ابن سناء الملك في معذر:

كنت مثل الظّبي ذا غيدٍ ... صرت مثل الثّور ذا غبب

وجنةٌ كانت أبا لهبٍ ... رجعت حمّالة الحطب

وقال:

وصفتك واللاّحي يعناد بالعذل ... فكنت أبا ذرٍّ وكان أبا جهل

وقلت وأنا في رمل مصر عند العريش:

أتينا عريش الرّمل في وقت حرّه ... فقلنا له تبّت يداك أبا لهب

وكم أثلةٍ لا ظلّ فيها ولا جنىً ... تقابلنا منه بحمالة الحطب

ثم قال من فصل: ومن آثر مساعيه أنه حاز قفل المكارم ومفتاحها، وإذا سئل منقبةً كان مناعها وإذا سئل موهبة كان مناحها، وأحسن أثرا من ذلك أنه أخذ بأعنة الصواب وألان جماحها، وإذا شهد حومة حربٍ كان منصورها وإذا لقي مهجة خطب كان سفاحها.

أقول: وهذا الباب أعني أسماء الخلفاء في الألقاب، مما جسر الناس على دخوله، وعبره كل أحد من المتأدبين وتصرف في محصوله، فإنه سلس القياد في التورية إذا جذب وسريع الارتفاع إذا أقيم أو نصب.

قال ابن سناء الملك:

بايعته يد السّعادة والبي ... عة قد كررت عليه اليمين

واصطفاه الرأي الرشيد على العا ... لم فهو الأمين والمأمون

وقال سيف الدين المشد ابن قزل:

يا أهل ودّي دعوةً من مدنفٍ ... خفيت شكايته عن العوّاد

تالله ما جلدي عليكم طائعٌ ... كلاّ ولا والله قلبي الهادي

وقال ابن سناء الملك:

بأبي وأمّي من يكون المكتفي ... بجماله لجماله كالمقتدي

مستوحشٌ متفرّدٌ في حسنه ... لا تعجبنّ لوحشة المتفرّد

وقال مجير الدين محمد بن تميم:

يا موثرا قصدي حماة وخدمتي ... سلطانها من بعد كلّ أمير

أنا واثقٌ برشيد رأيك طائعٌ ... لأمينه الهادي إلى المنصور

ثم قال من فصل: وما أقول إلا أنه شعر بتلك المسرة المسروقة فأقام عليها القطع، ورأى العيش فيها خفضا فأزاله الرفع.

أقول: وهذا الباب أيضاً مما تقدم، وسوره مما خرب وتهدم، قد دخل الناس فيه أفواجا، وراقت لآلئهم فيه انفرادا وازدواجا.

قال السراج الوراق يرثي الجزار:

رفعوك وانتصبوا قياما خافضي ال ... أصوات إذ جزم الرّدى منك العرى

وغدوت في الأكفان عنهم مضمرا ... وهم يرونك للجلالة مظهرا

إنّ الصّحيح اعتل مذ فارقتنا ... وأبيك والجمع الصّحيح تكسّرا

وقال أيضاً:

نصب العداوة حاسدوك فأعقبوا ... جزما لألسنهم وخفض الشّان

فمتى أراهم أدبروا ورؤوسهم ... مرفوعةٌ بعوامل المرّان

وقال شهاب الدين التلعفري:

وإذا الثّنيّة أشرفت وشممت من ... نفس الحمى أرجا كنشر عبير

سل هضبها المنصوب أين حديثها المرفوع عن ذيل الصبا المجرور وهذا في غاية الحسن من الصناعة، فإنه أتى بالمنصوب في المنصوب، وبالمرفوع في المرفوع، وبالمجرور في المجرور.

وله بيتان آخران في هذا المعنى، ولكن هذين أحسن وأكمل.

وعلى الجملة، فهذه الأشياء قد انتهك المتأخرون حرمتها، ومنعوا من الآباء عصمتها خصوصا أسماء الخلفاء كما تقدم، وألقاب الإعراب وقد تقدم، وأسماء سور القرآن. كما قال أبو الحسين الجزار يمدح فخر القضاة نصر الله ابن بصاقة:

وكم ليلةٍ قد بتّها معسرا ولي ... بزخرف آمالي كنوزٌ من اليسر

أقول لفقري كلما اشتقت للغنى ... إذا جاء نصر الله تبت يد الفقر

وكما قال أيضاً وقد خلع على شاعر أسود ولم يخلع عليه يخاطب جمال الدين ابن رمضان:

غير خافٍ عنك الذي ناله الأسود ... بالأمس من ندى السّلطان

وتمشّيه بالعمامة والثّوب ... ومنديل الكم والطّيلسان

<<  <   >  >>