ومن إنشاء شيخنا شهاب الدين محمود رحمه الله تعالى في وصف حصن: حصن قد تقرط بالنجوم وتقرطق بالغيوم، وسما فرعه إلى السماء ورسا أصله في التخوم، تخال الشمس إذا علت أنها تتنقل في أبراجه، ويظن من سها إلى السهى أنه ذبالة في سراجه، لا يعلوه من مسمى الطير غير نسر السماء ومرزمه، ولا يرمق متبرجات بروجه غير عين الشمس والمقل التي تطرف من أنجمه، وحوله من الجبال كل شامخ تتهيب عقاب الجو قطع عقابه، وتقف الرياح حسرى إذا توقلت في هضابه، تخاف العيون إذا رمقته سلوك ما دونه من المحاجر، ويخيل الفكر صورة الترقي إليه ثم لا يبلغها حتى تبلغ القلوب الحناجر، وحوله من الأودية خنادق لا تعلم منها الشهور إلا بأنصافها ولا تعرف فيه الأهلة إلا بأوصافها.
قال كعب الأشقري يصف حصنا:
محلّقةٌ دون السماء كأنها ... غمامة صيفٍ زال عنها سحابها
فلا يبلغ الأروى شماريخها العلا ... ولا الطير إلا نسرها وعقابها
ولا خوّفت بالذئب ولدان أهلها ... ولا نبحت إلاّ النّجوم كلابها
والخالديان:
وقلعةٍ عانق العيّوق أسفلها ... وجاز منطقة الجوزا أعاليها
لا يعرف القطر إذ كان الغمام بها ... أرضا توّطأ قطريه سواسيها
إذا الغمامة لاحت خاض ساكنها ... حياضها قبل أن تهمي عزاليها
يعدّ من أنجم الأفلاك مرقبها ... لو أنه كان يجري في مجاريها
على ذرى شامخٍ وعزٍ قد امتلأت ... كبرا به وهو مملوءٌ بها نيها
له عقابٌ عقاب الجو حائمةٌ ... من دونها فهي تخفى في خوافيها
وقالا أيضاً في ذلك:
وحلقاء قد تاهت على من يرونها ... بمدقبها العالي ومركبها الصعب
يزرّ عليها الجو جيب غمامه ... ويلبسها عقدا بأنجمه الشهب
إذا ما سرى برقٌ بدت من خلاله ... كما لاحت العذراء من خلل السحب
سموت لها بالرأي يشرق في الدجى ... ويقطع في الجلّى وتنهض في الصعب
فأبرزتها مهتوكة الجيب بالقنا ... وغادرتها ملصوقة الخد بالتّرب
[مناقشة حول التشبيه في أبيات أحد الشعراء]
قال في النوع الثاني من التشبيه بعدما أورد قول الشاعر:
وكأنّها وكأنّ حامل كأسها ... إذ قام يجلوها على النّدماء
شمس الضّحى رقصت فنقّط وجهها ... بدر الدّجى بكواكب الجوزاء
إنه شبه الساقي بالبدر، وشبه الخمر بالشمس، وشبه الحبب الذي فوقها بالكواكب.
أقول: قد ادعى أنه شبه ثلاثة بثلاثة، وهو لم يشبه الساقي، ولا في البيتين ما يدل على تشبيهه، على أن الشاعر توهم أنه شبه الساقي ولم يذكره، وقلده ابن الأثير رحمه الله في وهمه. ومعناهما: أن الخمر في حببها كأنها شمس رقصت فنقطها البدر بالكواكب، وكنى برقصها عن اضطرابها عند المزج. وحسن ذكر البدر هنا لأنه يصاحب الكواكب، وهو أكبرها في رأي العين، لا في العقل إذا فكر في الهيئة، فحسن أن يكون له الكواكب تصرف لينقط الشمس بها. وذكر البدر هنا أمر على طريق الاستطراد، لما ذكر النقوط، أراد أن يسند فعله إلى فاعل صدر عنه، فحسن أن يذكر البدر. ولو حذف من الكلام تم المعنى في الأصل، كما يقال: كأن الخمر شمس رقصت فنقطت بالكواكب. والشاعر أثبت أداة التشبيه للساقي في قوله: وكأنها وكأن حامل كأسها.
ولم يأت له بمشبه به، فالشاعر واهم، وابن الأثير مقلد، وكلاهما اغتر بذكر البلد، لأن العادة قد جرت بتشبيه الساقي بالبدر، والخمر بالشمس. كقول الشاعر:
إسقنيها بنت كرمٍ ... عتّقت عشراً وخمساً
بات يجلوها علينا ... قمرٌ يحمل شمسا
وقول الآخر:
وساقٍ كالهلال يدير شمساً ... على النّدمان في مثل الهلال
وقول ابن الرومي:
أبصرته والكأس بين فمٍ ... منه وبين أناملٍ خمس
فكأنّها وكأنّ شاربها ... قمرٌ يقبّل عارض الشمس