لما رأت شيبا ألمّ بمفرقي ... صدّت صدود مفارقٍ متجمّل
وجعلت أطلب وصلها بتذللٍ ... والشيب يغمزها بأن لا تفعلي
والشاعر إنما أراد هذا المعنى المعهود، فإن واصل بن عطاء الغزال رأس المعتزلة، كان يلثغ في الراء لثغة قبيحة، وكان يتجنب الراء في كلامه، ولا تكاد تسمع منه كلمة فيها راء ويقال إنه امتحن ليقرأ أول سورة براءة فقرأ من غير فكر ولا روية: عهد من الله ونبيه إلى الذين عاهدتم من الفاسقي، فسيحوا في البسيطة هلالين هلالين.
وبلغه أن بشار بن برد هجاه، فقال غير مفكر: أما آن لهذا الأعمى الملحد المكنى بأبي معاذ من يقتله. أما والله لولا أن الغيلة خلق من أخلاق الغالية، لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضطجعه ثم لا يكون إلا سدوسيا أو عقيليا.
فقال الأعمى ولم يقل الضرير، وقال الملحد ولم يقل الكافر، وقال أبو معاذ ولم يقل بشار بن برد ولا المرعي، وقال الغيلة ولم يقل الغدر، وقال الغالية ولم يقل المغيرية ولا المنصورية، وقال بعثث ولم يقل سيرت، وقال يبعج ولم يقل يبقر، وقال مضطجعه ولم يقل فراشه، وأراد بذكر عقيل وسدوس ما كان بشار بن برد يذكره من الاعتزاز إليهما.
وقال فيه بعض الشعراء يمدحه:
ويجعل البرّ قمحا في تصرفه ... وخالف الراء حتى احتال للشعر
ولم يطق مطرا والقول يعجله ... فجاء بالغيث إشفاقا من المطر
فلهذا قال الشاعر ذلك البيت. وشبه الوصل بواصل، وشبه الشيب بالراء. مراده أنه يجفوه جفاء واصل الراء.
وقال آخر فأحسن:
أعد لثغةً لو أن واصل حاضرٌ ... ليسمعها ما أسقط الراء واصل
وقال الرمادي في مليح ألثغ.
لا الراء تطمع في الوصال ولا أنا ... الهجر يجمعنا فنحن سواء
فإذا خلوت كتبتها في راحتي ... وقعدت منتحبا أنا والراء
وقال الأرجاني:
هجر الراء واصل بن عطاءٍ ... في خطاب الوري من الخطباء
وأنا سوف أهجر القاف والرا ... ء مع الضاد من حروف الهجاء
[مناقشة نموذج من إنشاء ابن الأثير]
قال: وكذلك كتبت إلى بعض الأصحاب كتابا من هذا الجنس، أهزل معه فقلت: ينبغي له أن يشكرني على وسمه بهجائي دون امتداحي، فإني لم أسمه إلا لتحرم به الأضحية في يوم الأضاحي، ولا شك أن سيدنا معدود في جملة الأنعام، غير أنه من ذوات القرون والقرون عدة في الخصام.
أقول: أي معنى هذا حتى يتبجح به وقول: وهذا معنى ابتدعته ولم أسمعه لأحد قبلي.
ولو أنه اقتصر على السجعتين الأوليين لكان ذلك أحسن من أن يفسر معناهما فيما بعد ولقد أذهب رونق التنديب والتندير، بما أتى به من التفسير. وقد قيل إن من شرط التنديب أن لا يكون خفيا ولا صريحا ولكن بين بين.
ألا ترى إلى قول السراج الوراق فيمن ينعت بالصفي:
حالت حوادث بيني ... بين الصفيّ وبيني
فلا أموت إلى أن ... أرى الصفيّ بعيني
ما أحلاه. ولو قال: فلا أموت إلى أن اراه صفيا أو بعين واحدة، يعني أعور ما كان له هذه الطلاوة، ولا فيه هذا الحسن الواقع من القلب. أو لو أخذ يفسره فيما بعد ويشرح ما رمزه، ذهبت منه هذه الحلاوة.
وانظر ما أحسن قول الجزار أبي الحسين رحمه الله تعالى:
لو يقنص الجزار أرواح العدى ... في يوم عيدك كنت أول قانص
لكنهم أمنوا مداي لنقصهم ... إنّ الضحية لا تكون بناقص
وقوله أيضاً:
نصحتك فاسمع من نصيحة عاشقٍ ... وإني على ما قلته لأمين
من الرأي أن لا توقع الحرب بيننا ... فإني جزارٌ وأنت سمين
ولو قال: ينبغي له أن يشكرني على وسمه بهجائي بين البرية، فإني لم اسمه إلا لكي تحرم به الأضحية، لكان أحسن. فإن قوله: الأضحية في يوم الأضاحي من باب قولك: العيد في يوم العيد، والصيام في يوم الصيام. ومن المعلوم أن الضحايا لا تطلق إلا على ما ذبح أيام التشريق، وما ذبح في غير ذلك من الذبائح لا يطلق عليه ذلك. وكذلك صلاة الجمعة لا تطلق إلا على الصلاة المعروفة في الوقت المخصوص، ومتى كانت صلاة في غير ذلك الوقت فلا تكون جمعة.
نموذج من إنشاء ابن الأثير يدعي فيه الإبداع