ويقال: إن سبب وضع أبي حنيفة الفقه وتدوينه أنه كان في عصره اثنان حضرا إلى الحمام وأودعا صاحبه وداعة لها صورة، ودخلا الحمام. ثم إن أحدهما خرج وطلب الوداعة وأخذها وراح في سبيله. فلما خرج الآخر طلبها من الحمامي فقال له: إن صاحبك خرج وأخذها، فراح إلى الحكام في ذلك الزمان وشكاه إليهم فألزموه بالقيام بها للغريم الحاضر وقالوا له: أنت فرطت، وكان الواجب أن لا تدفع الوداعة إلا إليهما معا كما أودعاك معا، فبقي ذلك الرجل في حيرة لا يدري ما يصنع. فلقيه أبو حنيفة فسأله عن حاله لما رآه من الفكرة والحيرة، فأخبره بقضيته، فقال له: قل لغريمك: إن المال عندي، فأحضر لي صاحبك لأدفع الوداعة إليكما، فإذا أتى به حصلت على غريمك. فكان ذلك سبب خلاص الحمامي من تلك الورطة.
وعند ذلك أخذ أبو حنيفة في تدوين الفقه، وكانت المسألة المذكورة أول ما وضعه. وكذلك أصول الفقه، إنما كان يقوم به المجتهد العارف بما يحتاج إليه من العلوم في استنباط الحكم من الآية والحديث، ويكون عنده قوة ينظر بها في المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والحقيقة والمجاز، وصحة الحديث من ضعفه، وثقة رواته، وترجيح أحد الحديثين على الآخر إذا تساويا في الصحة بما يوافق القواعد ويستند إلى القياس الشرعي، ومثل هذا يحتاج إلى علوم جمة، فجاء الشافعي رحمه الله تعالى ووضع أصول الفقه وجمع ما كان منه مفرقا في العلوم من اللغة في معرفة المشترك والمتباين والمترادف، والحقيقة والمجاز، والاستعارة والكناية.
ومن النحو في معرفة الشرط والجزاء، والاستثناء المتصل والمنقطع، والعطف المرتب والعطف الذي لا يرتب، والذي للفور والذي للتراخي، وحروف الجر واختلاف معانيها وما ينقسم كل حرف إلى أنواعه، والأسماء المبهمة وغير ذلك.
ومن المنطق في معرفة دلالة المطابقة والتضمن والالتزام، ومعرفة الجنس والنوع، والفصل والخاصة والعرض العام، والمقدمتين والنتيجة والقياس المنتج، وغير ذلك مما يحتاج إليه الفقيه من قواعد الجدل ومعرفة المغالط، وما يحتاج إليه من معرفة صحة الحديث وضعفه وحسنه إلى غير ذلك. وجعله الشافعي رحمه الله تعالى علما قائما برأسه وإن كانت أجزاؤه مفرقة في العلوم. ثم إن الناس جاؤوا بعده وزادوا فيه ما أمكن من ذلك. فكذا علم المعاني والبيان، انتزع من النحو ودون وجعل فنا قائما برأسه.
[حول توكيد الضميرين]
قال: ولنقدم في ذلك قولا يحصره ويجمع أطرافه فنقول: إذا كان المقصود معلوما ثابتا في النفوس، فأنت بالخيار في توكيد أحد الضميرين بالآخر وإذا كان غير معلوم وهو مما يشك فيه فالأولى حينئذ أن توكد أحد الضميرين بالآخر في الدلالة لتقرره وتثبته. فمما جاء من ذلك قوله تعالى:" قالوا يا مُوسى إمّا أن تُلقِي وإمّا أَنْ نكونَ نَحنُ المُلْقِين " فإن إرادة السحرة للإلقاء قبل موسى لم تكن معلومة عنده، ولأنهم لم يصرحوا بما في أنفسهم وطول في الكلام على ذلك.
أقول: ظهرت فائدة ما قررته أنا من أن المعاني والبيان جزء من النحو، وإذا خرجا عن القواعد النحوية، خبط قائلهما عشواء. والدليل على ذلك أنه قرر في القاعدة التي له أن المعنى إذا كان ثابتا في النفس، فأنت مخير في تأكيد أحد الضميرين بالآخر وليست هذه القاعدة على الإطلاق، فإن التأكيد هو التكرار، ومن شرطه أعني التكرار أن يتم المعنى بدونه مثل: ضربت زيدا زيدا، وجاءني زيد زيد، وأنت أنت الفاضل، وهو هو الجواد. فكل هذه الصور يجوز حذف التأكيد فيها لأن المعنى يتم بدونه.
وقد وجدنا الضمير يتكرر ولا يجوز حذفه، كقوله تعالى:" وقلنا يا آدم اسكُن أنت وزوجُك الجنّة ". وقوله تعالى:" فاذهبْ أنتَ وربُّك فَقاتِلا "، لأن أفعال الأمر نحو: قم واقعد واسكن كلها يتحمل الضمير ولا يجوز إظهاره، لأن التقدير: قم أنت، واسكن أنت، ولهذا حكم النحاة على أفعال الأمر بأنها كلام لأنها تركبت من فعل وفاعل.