للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولي قلبٌ إذا اذّكر الزمان ال ... لذي نلنا به الأوطارا طارا

وقلت أيضاً:

إن أنت أصبحت ربّ أمرٍ ... فلا تعره لباس باس

وإن تمادت بك الأماني ... لا تعرها من قياس ياس

[لزوم ما لا يلزم]

قال في النوع الرابع في لزوم ما لا يلزم ومن ذلك ما ذكرته في جملة كتاب يتضمن ذم جبان فقلت: إذا نزل به خطب ملكه الفرق، وإذا ضل في أمر لم يؤمن إلا إذا أدركه الغرق.

أقول: في السجعة الثانية عدم مطابقة، وما يقابل الضلال إلا بالهدى، ولا الإيمان إلا بالكفر. فيقال في ذلك: فإذا كفر نعمة لم يؤمن، وإذا ضل في أمر لم يهتد. وهذا من العيوب المعدودة.

وقد عيب على أبي الطيب قوله:

نظرت إلى الذين أرى ملوكا ... كأنك مستقيمٌ في محال

وكان ذلك بحضرة سيف الدولة. فقيل له: إنما يقابل المستقيم بالمعوج، والصناعة تقتضي أن تقول: كأنك مستقيم في اعوجاج. فقال له سيف الدولة: لو أن القافية جيمية كيف كنت تصنع في البيت الثاني؟ فقال أبو الطيب من غير روية: كنت أقول:

فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإنّ البيض بعض دم الدجاج

فاستحسن ذلك من سرعة بديهته.

على أن المتنبي وقع له هذا كثيراً في شعره. من ذلك قوله:

ولكل عين قرةٌ في قربه ... حتى كأنّ مغيبه الأقذاء

القرة إنما ضدها الإسخان، والقذى ضده الجلاء. وقوله:

ولم يعظم لنقصٍ كان فيه ... ولم يزل الأمير ولن يزالا

العظم ضده الحقارة، والنقص ضده التمام أو الكمال وقوله:

وإنه المشير عليك في بضلّةٍ ... فالحرّ ممتحنٌ بأولاد الزنا

الحر ضده اللئيم.

وإن أمكن التأويل لأبي الطيب في هذه وأمثالها، لكن الأحسن أن تكون كما ذكرته. وهذا النوع كثير في شعره.

[مناقشة حول معنى أخطأ ابن الأثير فيه]

[في إنشائه]

وأما كون ابن الأثير رحمه الله تعالى يأتي بسجعتين لزومهما من أخف ما يكون ويعدهما من اللزوم ويستشهد بهما في كتابه من كلامه فإن هذا من العجيب. ولو كان الكاتب كله من أوله إلى آخره بلزوم الراء قبل القاف، لما كان كبير أمر.

ألم ير كتاب اللزوميات لأبي العلاء، وهو مجلد كبير نظم على حروف المعجم. ألم ير المقامات التميمية وهي خمسون مقامة أنشأها السرقسطي ملزومة من أولها إلى آخرها وقد جمع الشيخ شرف الدين عبد العزيز شيخ الشيوخ من شعره جزءا جيدا من باب اللزوم، أتى فيه بأبحر العروض وضروبها، والشعر في غاية الحسن ولطف التركيب وجودة المعاني ورقة الألفاظ.

من ذلك قوله:

متيمٌ ودّ في عينيه لو خبأك ... ماذا يضيرك لو عرّفته نبأك

إن أثّرت مقلتي في وجنتيك فقد ... نكأت قلبي بها أضعاف ما نكأك

أدميت خديك إذ أدميت لي كبدي ... أنصف وقل لي ترى بالشر من بدأك

منها.

قد قلت للسجف لما أن حجبت به ... يا سيف ليتك قد أخفيت لي رشأك

ويا منمنم خطي عارضيه لقد ... قراك مهجته العاني وما قرأك

وأنت يا من يساميني إلى شرفي ... لقد وسعت إذا أضعاف ما ملأك

هذا وسرحك يرعى في حمى كلأي ... فلا رعى سرحك الباري ولا كلأك

قل ما بدا لك من لؤمٍ لذي كرمٍ ... فلو نبحت طوال الدهر ما خسأك

انظر إلى لطف هذا النظم وانسجامه، وإلى هذه القوافي وتمكنها في أماكنها وما أحلاها في مواطنها، وإذا أفردتها من تركيبها لم يكن لها هذا الحسن. وما أقوى تركيبها في بنائها نفسها، وليست على إفرادها بعذبة في السمع. وهنا يبين قدر الناظم. وما أحلى قوله: فلا رعى سرحك الباري ولا كلأك.

ثم إن ابن الأثير رحمه الله ساق بعد تينك السجعتين شيئاً آخر من كلامه سجعتين سجعتين أيضاً مثل: بابه واغبابه، وعرضا وأرضا، وأنزلته وحولته، واطرافها واطرافها، وسكناه ويمناه، وليس ذلك من النادر الحسن. كما جاء في كلام القاضي الفاضل رحمه الله تعالى في قوله: والإنعام الذي هو الحقيقة وما سواه مجاز، والفضل الفصل اللذين وردا بالإسهاب والإيجاز، والجميل المخلد الذكر فإنه تنجيز وعد الخلود وإن جاز فيه إنجاز.

<<  <   >  >>