أقول: قوله كما خدع عمر، في هذا القول إساءة أدب على عمر رضي الله عنه من نسبته إلى أنه خدع، وفي هذا شبهة لصاحب التقليد، فإنه يقول في نفسه: وإذا كان مثل عمر خدع، فما ظني بنفسي، فيقع منه الإهمال. والآدب في مثل هذا أحسن، ودفع الانخداع عنه أليق. ألا ترى إلى قوله تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام: " من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي "، فنسب ما وقع بينهم إلى الشيطان تأدباً مع إخوته عليهم السلام. وإذا خدع مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع تحرزه وشدته في الدين، فما يظن بغيره.
وقال المغيرة بن شعبة: ما رأيت أحدا أحزم من عمر. كان والله له فضل يمنعه أن يجزع، وعقل يمنعه أن يخدع.
قال أبو بكر الخرائطي: رحم الله عمر ما كان أنظره بنور الله في ذات الله وأفرسه. كان والله كما قال الشاعر:
بصيرٌ بأعقاب الأمور برأيه ... كأنّ له في اليوم عينا إلى غد
وقد نقل عن أبي العباس أحمد بن عبد الله بن الحطيئه أنه كان يقول: أدرجت سعادة الإسلام في أكفان عمر بن الخطاب.
وما أحسن قول الشاعر:
حججي عليك إذا خلوت كثيرةٌ ... وإذا حضرت فإنني مخصوم
لا أستطيع أقول أنت ظلمتني ... الله يعلم أنّني مظلوم
فانظر إلى أدب هذا الشاعر وتلطفه مع محبوبه وإجلاله له.
وكان الأحسن أن لو قال: وإذا استعنت على عملك بأحد، فلا تثق منه بلمع السراب، واكشف بيد إرصادك عن وجه سيرته حجاب النقاب، وتيقظ لأموره فلا ترض بالظاهر العامر وتنسى الباطن الخراب، وتخيل من مكره ما تحيل به الربيع بن زياد على عمر بن الخطاب. فإن نسبة الحيلة إلى الربيع أحسن في الأدب من نسبة الخدع إلى عمر رضي الله عنه.
[إنكار التلقب بالناصر على السلطان صلاح الدين]
قال: وجدت لابن زيادة البغدادي كتاباً كتبه إلى الملك الناصر صلاح الدين يشتمل على أمور أنكرت عليه من ديوان الخلافة. من ذلك أنه تلقب بالناصر وذلك لقب أمير المؤمنين.
ثم إن ابن الأثير استصلح الكتاب وقال: لم أجد فيه مغمزاً إلا في هذا الفصل الذي يتضمن حديث اللقب، فإنه لم يأت فيه بكلام يناسب باقي الفصول المذكورة، بل أتى بكلام فيه غثاثة كقوله: ما يستصلحه المولى على العبد حرام وشيء من هذا النسق.
ثم إن ابن الأثير رحمه الله ذكر ما أنشأه في هذا المعنى لنفسه قال: قد علم أن للأنبياء والخلفاء خصائص يختصون بها على حكم الانفراد، وليس لأحد من الناس أن يشاركهم فيها مشاركة الأنداد. وقد أجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في أشياء نص عليها بحكمه، من جملتها أنه نهى غيره أن يجمع بين كنتيه واسمه، وهذا مسوغ لأمير المؤمنين أن يختص بأمر يكون به مشهوراً وعلى غيره محظوراً.
وساق باقي السجع وليس فيه زبدة فأثبته. أقول: قبل الخوض معه أقدم الفرق بين الاسم والكنية واللقب.
وذلك أن العلم الدال على شخص معين إن كان مصدرا بأب كأبي بكر وأبي حفص، أو بأم كأم كلثوم وأم البنين وأم المؤمنين فهو الكنية. وإن أشعر برفع المسمى كماء السماء وذي رعين وذي النورين وذات النطاقين وذي الجناحين، ويدخل في هذا ألقاب الخلفاء بني أمية وبني العباس، كالهادي والمهدي والرشيد والأمين والمأمون، ويدخل فيه مصطلح الناس، من شمس الدين وبدر الدين ونجم الدين وغير ذلك من ألقاب أهل الكتاب كشمس الدولة وتاج الملك. أو يشعر بضعة المسمى كففة وبطة والأقيشر والأحوص فهذا هو اللقب. وإن كان للدلالة على ذات المسمى وتعيينه، كزيد وعمرو وبكر وخالد فهذا هو الاسم.
وإذا تقرر هذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي " مراده لا يقال لأحد من أمته محمد أبو القاسم. أما الناصر والعاضد والقادر والمستنصر وما أشبه ذلك فليس ذلك بكنية ولا اسم على ما تقرر.
على أن الفقهاء اختلفوا في التكني بأبي القاسم على ثلاثة مذاهب: فذهب الشافعي رحمه الله ومن وافقه إلى أن لا يحل لأحد أن يكتني به سواء كان اسمه محمدا أو غيره.
وذهب مالك رحمه الله إلى أنه يجوز التكني به لمن اسمه محمد ولغيره. وذهب بعضهم إلى أنه يجوز لمن لم يكن اسمه محمداً ولا يجوز لمن اسمه محمد.
قال الرافعي: يشبه هذا الثالث أن يكون أصح، لأن الناس ما زالوا يكتنون به في جميع الأعصار ولا إنكار.