للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولو كان الشاعر شبه الساقي لقال: شمس يديرها بدر أو يطوف بها أو يحملها. وهذان البيتان مشهوران بين أهل الأدب، ولعل أحدا ما تفطن لهذا النقد. وما أقول: لأن الشاعر أدخل أدلة التشبيه على مثار النقع وأسيافهم وأتى بمشبه واحد هو الليل وقوله: تهاوى كواكبه في موضع الصفة لليل، فهي من لواحق الليل.

ولو قال: ليل تهاوى كواكبه، ورقمه البرق ووشاه الصبح، لكان كل ذلك مشبها به ليس إلا. ولو كان من باب تشبيه اثنين باثنين لقال: ليل وكواكب تتهاوى. كما قال امرؤ القيس:

كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالي

وهذا الذي ذكرته ثابت على محك النظر ليس بدعوى مجردة عن الدليل والبرهان. وللعكوك بيت هو بيت بشار بن برد. وهو:

كأنّ سموّ النقع والبيض حوله ... سماوة ليلٍ أسفرت عن كواكب

وما أحسن قول ابن قاضي ميلة:

بتنا ونحن على الفرات نديرها ... ليلا فأشرق من سناها النيل

وكأنها شمسٌ وكف مديرها ... فينا ضحى وفم النديم أصيل

وذكرت بالبيتين اللذين أوردهما ابن الأثير رحمه الله تعالى قول ابن السراج في مجدور:

لي قمرٌ جدّر لما اكتسى ... فزاده حسنا وزادت هموم

كأنه غنّى لشمس الضّحى ... فنفّطته طربا بالنجوم

وقول أبي يزيد العاص أكثر مناسبة من هذا، فإنه قال:

عابه الحاسد الذي لام فيه ... أن رأى فوق خدّه جدريّا

إنما وجهه كبدر تمامٍ ... جعلوا برقعا عليه الثريا

لأن الثريا قد ترى مع البدر، وأما النجوم فلا ترى مع الشمس. ويمكن أن يقال فيه: ولهذا قال: نقطته طربا بالنجوم، فإن من نقط بشيء فقد بان عنه وفارقه.

ويمكن أيضاً التأويل للبيتين اللذين أوردهما ابن الأثير أيضاً ولكنه بعيد.

[مناقشة نماذج من التشبه من إنشاء ابن الأثير]

قال في التشبيه: ومن ذلك ما كتبته من جملة كتاب إلى ديوان الخلافة أذكر فيه نزول العدو الكافر على عكا. فقلت: وأحاط به العدو إحاطة الشفاه بالثغور، ونزل عليه نزول الظلماء على النور.

أقول: ليس في ذلك مبالغة، لأن الشفاه لا تحيط بالثغور، والإحاطة اشتمال المحيط على المحوط من كل جانب، كالدائرة بالنقطة، وعنصر الماء بكرة الأرض، وبياض العين بالسواد. أما الشفاه فإنما هي ساترة لا محيطة.

والكامل في ذلك قول الحريري رحمه الله تعالى: وقد أحاطت به أخلاط الزمر، إحاطة الهالة بالقمر والأكمام بالثمر.

وقول القاضي الفاضل: وأبقاه بقاءاً خارقاً للعوائد، وجعل أياديه مطيفة بالأعناق إطافة القلائد وليست الشفاه كذلك، إنما هي تستر الظاهر دون الباطن.

وقوله: نزول الظلماء على النور، لا بأس به، من نسبة الكفار إلى الظلام، ونسبة ثغر عكا إلى النور لكونه كان في أيدي المؤمنين.

وما أحلى قول القاضي الفاضل رحمه الله تعالى من كتاب في فتح طبرية: وصبح الخادم طبرية وهجم عليها هجوم الطيف، وافتض عذرتها بالسيف.

قال: ومن ذلك ما ذكرته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوان فقلت: وما شبهت كتابه في وروده وانقباضه، إلا بنظر الحبيب إلى إقباله وإعراضه وكلا الأمرين كالسهم في ألم وقعه وألم نزعهن والمشوق من اشتهرت صبابته في حالتي وصله وقطعه.

أقول: هذا مأخوذ من قول الشاعر

..........

ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع النصال ونزعه، أليم

[براعة التشبيه في بيت للبحتري]

قال وقد أورد قول البحتري:

وتراه في ظلم الوغى فتخاله ... قمرا يكرّ على الرّجال بكوكب

وفي هذا التشبيه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء، فإنه شبه العجاج بالظلمة، والممدوح بالقمر، والسنان بالكوكب. وهذا من الحسن النادر.

أقول: هذا من أنموذج ما تقدم من قوله في قول الشاعر:

وكأنها وكأن حامل كأسها ... البيتين.

هناك وهم الشاعر فقلده، وهنا انفرد هو بالوهم دون البحتري، لأن البحتري ما قال: وتراه في عجاج الحرب إذا كر على الرجال برمحه، قمرا يجول في الظلام بكوكب، ولو كان البيت يفهم منه هذا المعنى، كان تشبيه ثلاثة بثلاثة، وليس في البيت غير تشبيه واحد لأنه قال: تراه في ظلم الوغى فتخاله قمراً.

<<  <   >  >>