أقول: ما أولى هذين البيتين بالشك، وأحق ناظمهما بالصك، أي حسن فيهما وأي لطف، مع هذه الألفاظ المستثقلة في استعماله البصرة بتحريك الصاد، وما فيهما من الزحاف وإن كان جائزا. وهل فيهما غير ذكر المعرفة والنكرة؟ وأي كبير أمر في ذلك!.
ولو شاء كتاب هذا العصر أن يستعملوا أبواب النحو وألقاب الإعراب من أول الفن إلى آخره في أي معنى أرادوا لفعلوه.
أما في النثر، فقد وجدت للقاضي محيي الدين ابن عبد الظاهر رحمه الله تعالى رقعة كتبها شفاعة على يد شخص إلى كبير. وهي: لا زال علم علمه مرفوعا أبدا، وبناء مجده منصوبا بخفض العدى، ولا برحت حروف أقلامه لأفعال الشك جازمة، ووفود السعود عن أعدائه متعدية ولأوليائه لازمة.
وينهى أن فلانا حضر وذكر أن اسمه رخم في غير النداء، وجزم والجزم لا يدخل على الأسماء، واستثني من غير موجب بخفض وليس الخفض من أدوات الاستثناء، وادعى أن العامل الذي دخل عليه منعه من التصرف ولزمه لزوم البناء، ودخل معه في الشرط وأفرده بالجزاء، والمؤثر أيده الله نصب محله على المدح لا على الإغراء، ورفع اسمه المعرى من العوامل على الابتداء ففيه من التمييز والظرف ما يوجب له العطف، ومن العدل والمعرفة ما يمنعه من الصرف. لا زال باب مولانا للعائد والصلة، وحال مكانته شائعة غير منتقلة.
فانظر إلى صناعة هذا المنشئ في هذه الرسالة ما ألطف ما أتى بهذا المصطلح النحوي في معنى الشفاعة والدعاء والثناء على من شفع له من أول كلامه وإلى آخره.
وأما النظم، فإنه قد عبث الشعراء به كثيراً، وهو مشهور. وما أحلى قول البهاء زهير:
لم يقض زيدكم من وصلكم وطره ... ولا قضى ليله في هجركم سحره
تركتم خبري في الهجر مبتدا ... وكلّ معرفةٍ لي في الهوى نكره
وما في البيتين اللذين أوردهما ابن الأثير، غير الكناية عن المذكور أنه ولد زنا لا يعرف أبوه. وما أحسن قول ابن عنين يهجو ابن سيده:
قل لابن سيدةٍ وإن أضحى له ... خولٌ تدلّ بكثرةٍ وخيول
ما أنت إلاّ كالعقاب فأمّها ... معلومةٌ ولها أبٌ مجهول
[حول السرقات الشعرية]
قال في النوع الثلاثين، في السرقات الشعرية بعدما أورد بيت ابن الخياط:
أغار إذا آنست في الحي أنّةً ... حذارا عليه أن تكون لحبّه
وبيت عمارة:
وهل درى البيت أنّي بعد فرقته ... ما سرت من حرمٍ إلاّ إلى حرم
إن هذين مسروقان من قول المتنبي:
لو قلت للدّنف المشوق فديته ... ممّا به لأغرته بفدائه
ومن قول أبي تمام يمدح بعض الخلفاء وقد حج:
يا من رأى حرما يسعى إلى حرم ... طوبى لمستلم يأتي وملتزم
وأخد في الشناع على أهل الشام ومصر، في كونهم خفي عليهم مثل هذا، وزاد في التعجب.
أقول: إن سبب خفاء السرقة في هذين البيتين وغيرهما، أن الأصل يكون ركيكا غير مستعمل ولا دائرٍ على الألسنة في المكاتبات والمحاورات والأمثال، فيأتي بعض الشعراء إلى ذلك المعنى الخامل، ويبرزه في صورة حسناء، ويسبكه في قالب أرشق وألطف من الأول، فيحلو ويعذب ويتداوله الناس، ويعود الأول نسيا منسيا كأن لم يكن. كما إذا بدا النجم ثم يبدو البدر من بعده، فلا يشتغل البصر بالنجم ويدع البدر.
وما أحسن قول أبي تمام:
أعندك الشمس تزهى في محاسنها ... وأنت منشغل الأحشاء بالقمر
ولا يلتفت في الثاني إلا إلى حسنه من غير بحث عن أصله، وهل هو مسروق أو مبتدع. على أن الأديب لو أنه ما عسى أن يكون من النقل والاطلاع، ليس في إمكانه استخراج كل معنى يمر به من غير روية ولا تتبع لذلك. خصوصا فيما عذب وساغ، وبرز في صورة غير صورته الأولى.
ولا شك أن قول ابن الخياط أعذب من قول المتنبي، ولهذا اشتهر. وكذا قول عمارة أحسن وأرق من قول أبي تمام، ولهذا ساغ واشتهر، واستعمل مثلا على تأخر زمانه، وتقدم زمان أبي تمام. خصوصا عجز بيت عمارة، فإنه ذاع وضاع، وملأ الأفواه والأسماع.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فما أحلى قول عبد الحكم بن الخطيب العراقي في رجل وجب عليه القتل، فرماه المستوفي للقصاص بسهم فأصاب كبده فقتله من وقته: