للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلذلك رسم الأمر العالي المولوي السلطاني الملكي الناصري، لا زال طائره ميمونا، ودر أمره في أدراج الامتثال مكنونا، أن يفوض إليه الحكم يبن رماة البندق بدمشق المحروسة، على عادة من تقدمه في ذلك من القاعدة المستقرة بين الرماة. فليتول ذلك ولاية يعتمد الحق بها في طريق الواجب، ويظهر من سياسته التي شخصت لها العيون فكأنما عقدت أعالي كل جفن بحاجب، وليرع حق هذه الطريق في حفظ موثقه، وليجر على السنن المألوف من هذه الطائفة فكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه، بحيث إنه ينزل كل مستحق في منزلته التي لا يعدوها، ويقبل من الرامي دعوى صيده الواجب له ويرد ما لا يعتد به الرماة ولا يعدوها، متثبتا فيما يحمل إليه للحكم ولا يرخ على عيبه ذيلا، محررا أمر المصروع الذي أصبح راميه من كلفه به مجنون ليلى، جريا في ذلك على العادة المألوفة، والقاعدة التي هي بالمنهج الواضح موصوفة. وليتلق هذه النعمة بشكر يستحق به زيادة كل خير، ويتل آيات الحمد لهذا الأمر السليماني الذي حكمه حتى في الطير. والله يتولى تدبيره، ويصلح ظاهر حكمه والسريرة. إن شاء الله تعالى.

[هل من شرط بلاغة التشبيه]

[أن يشبه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم]

قال في النوع الثامن من التشبيه: وقد قيل: إن من شرط بلاغة التشبيه أن يشبه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم، ومن ها هنا غلط بعض كتاب أهل مصر في ذكر حصن من حصون الجبال مشبها له: هامة عليها من الغمامة عمامة، وأنملة خضبها الأصيل وكأن الهلال لها قلامة.

ثم إنه أخذ يعيب هذا ويقول: أي مقدار للأنملة أن تشبه الحصن وأطال باعتراض وجواب.

أقول: إن ابن أبي الحديد ناقشه في ذلك، وقد بقي شيء من مؤاخذته على هذا.

وهو أن الذي ادعى أن من بلاغة التشبيه أن يشبه الشيء بما هو أكبر منه وأعظم، أبحث معه وأقول: فعلى هذا تبطل غلبة الفرع على الأصل في التشبيه، ونخطىء مثل ذي الرمة في مثل قوله:

ورملٍ كأوراك العذارى قطعته ... إذا ألبسته المظلمات الحنادس

فإنه شبه كثبان الرمل بما هو أقل منها وأحقر، لأن أوراك العذارى دون الكثبان. ولا نستحسن مثل قول أبي بكر محمد بن هاشم.

والمشتري وسط السماء تخاله ... وسناه مثل الزئبق المترجرج

مسمار تبرٍ أصفرٍ ركّبته ... في خاتمٍ والفصّ من فيروزج

فإن كرة السماء والمشتري أكبر من الفص والمسمار.

ولا قول ابن قزل:

فصلٌ كأنّ البدر فيه مطربٌ ... يبدو وهالته لديه طاره

وكأنّ قوس الغيم جنكٌ مذهبٌ ... وكأنما صوب الحيا أوتاره

ومثل هذا كثير. وكل ما كان في العالم العلوي لا يشبه بشيء من العالم الأرضي لأنه أحقر وأقل، كما تشبه الثريا بالنرجس الذابل، والهلال بالقلامه والنعل، والبرق بالسيف، والشمس بالمرآة، والنجوم بالسراج، وقوس قزح بأذيال العروس، وجميع ما هو من هذا الباب لا يجوز تشبيهه، وإن كان فلا يكون بليغا على هذا التقرير. وهيهات هذا سد لباب الحسن. وأما الحصون، فقد شبهها الشعراء بالأنامل، منهم الغزي حيث يقول:

سدّ البسيطة نازلا من قلّة ال ... جبل الأشمّ إلى قرار الوادي

حتى غدا الحصن المبارك خنصرا ... في خاتمٍ من بهمةٍ وجواد

وقد استعمل ابن الأثير ذلك، فقال في فصل تقدم: فنزلنا منه بمرأى ومسمع، واستدرنا به استدارة الخاتم بالإصبع.

وشبهها ابن قزل بالعين فقال:

إنّ الحصون لكالعيون فهدبها ... شرفاتها وجفونها الأصوار

وكذا محاجرها الخنادق حولها ... والحافظون لها هم الأشفار

ومن يعيب مثل قول القاضي الفاضل: ونزلنا قلعة نجم وهي نجم في سحاب، وعقاب في عقاب، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل كأن الهلال لها قلامة.

فما ينبغي لمجادل يناظره إلا كف القول عنه، وهل الطعن على هذا إلا قول من لم يصل إلى العنقود.

كأنّ عائبكم يبدي محاسنكم ... به ويمدحكم عندي ويغريني

ويكفيه أنه عاب مثل هذه الألفاظ التي بهر حسنها لما ظهر، وغدت وفي كل ضاحية من وجهها قمر.

وقول الفاضل يشبه قول ابن خفاجة:

في خضر غورٍ بالأراك موشّحٍ ... أو رأس طودس بالغمام معمّم

<<  <   >  >>