للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أقبل على تعاطي القنا من مغاوير الرجال، وتناولتها بالساعد مساعير الأبطال. آلة حدباء تنذر بالمنون، وأعوجي ضامر كحرف النون. أنضاء تحن على غلظ أكبادها، عطوف تئن لفراق أولادها. فرع شد بهداب الدمقس المفتل، ضارب بسهميه في أعشار قلب مقتل. غلاظ شداد قاسية القلوب جافية الطباع، توكل بقبض الأرواح ذي أجنحة مثنى وثلاث ورباع. نضو يهدر إذ لن في قرن، جامع إلى بطن الشارخ انحناء اليفن، مكدود كاد ينقطع منه الوتين، منحني الظهر شارف عقد الستين....

وهي طويلة تدخل في كراسة، وكلها من هذا الأنموذج.

وقد عارضها جماعة، منهم القاضي ناصر الدين بن المنير، ضنع ثلاثة أو أكثر، وغيره، وكلهم لم يشق لها غبارا، ولم يجر من الذيل خلفها إلا ما كان عثاراً.

وأما البندق، فلشيخنا القاضي شهاب الدين أبي الثناء محمود رحمه الله تعالى فيه رسالة طنانة، الدرة مع الشذرة تزدحم فيها كالحب في الرمانة، أثبتها في كتابه الموسوم بحسن التوسل وهي من الحسن في غاية، ومن طبقات الأدب في نهاية. ولولا طولها لأثبتها هنا، وأوجدت فقر هذا التأليف منها الغني.

ولابن الرومي قصيدة عينية في البندق والرماة رجز طويلة. ولمحمد سبط التعاويذي قصيدة في رمي البندق أولها:

حيّيت يا دار الهوى من دار ... ولا عدتك السحب السواري

في غاية الحسن، وهي في ديوانه.

ومن أحسن ما ذكرته في قوس البندق قول ابن وضاح المرسي:

عجبا من القوس الكريمة إنها ... لم ترع حق حمائم الأغصان

أضحت لها حتفا وكانت مأمنا ... وكذاك حكم تصرف الأزمان

وأما أنا فقد كتبت توقيعا بالحكم بين رماة البندق، لا بأس بإثباته هنا. وهو: الحمد لله الذي لم يزل حمده واجبا، ورفده لكل خير واهبا، وشكره للنعم جالبا وللنقم حاجباً، وذكره للبؤس سالبا، وللنعيم كاسبا. نحمده على نعمه التي نصرع بالحمد أصناف أطيارها ونقص بالشكر أجنحتها فلا قدرة لها على مطارها. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا يكون لنا بها عن الفوز بالجنة عذر، ولا نجد بها نفوسنا يوم البعث إلا في حواصل طوير خضر.

ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من قدم ذوي الرتب، وأشرف من حكم بالعدل العاري من الشبه والريب. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كانوا في الحروب عقبانها الكواسر، وفرسانها الذين أشبعوا من لحوم العدى ذوات المخالب والمناسر، ما أحمد الرامي في المرام عزمه، وسعت له في الرتب قدم قدمة. وسلم تسليما كثير. وبعد.

فلما كان الرمي بالبندق فناً تعاطاه الخلفاء والملوك، وسلك الأمراء والعظماء منه طريقة لطيفة المأخذ طريفة السلوك يرتاضون به عند الملل لاسترواح نفوسهم، ويجنون ثمرات المنى في التنزه من عروش غروسهم، ويبرزون إلى ما يروق الطرف ويروع الطير من برزاتهم، وينالون ببنادق الطين من الطير ما لا يناله سواهم بجوارح صقورهم ولا بزاتهم. قد نبذوا في تحصيل المراتب العلية شواغل العلق، وتدرعوا شعار الصدق بينهم وهم أصحاب الملق، ومنعوا جفونهم من ورد حياض النوم إلا تحلة، وبرزوا بوجوه هي البدور وقسي هي الأهلة. وتنقلوا في صيد النسور تنقل الرخ، وصادوا الطيور في الجو لما نثروا حبات الطين من كل قوس هو كالفخ، وصرخوا على الأوتار وكانت ندامى الأطيار على سلاف المياه من جملة صرعاها، واقتطفوا زهرات كل روضة أخرجت ماءها ومرعاها، احتاجت هذه الطريق إلى ضوابط تراعى في شروطها، وتسحب على الجادة أذيال مروطها، ليقف كل رام عند طور طيره، ويسبر بتقدمه غور غيره، ليؤمن التنازع في المراتب، ويسلم أهل هذه الطريقة من العائب والعاتب.

وكان المجلس السامي الأميري الشهابي هو الذي جر فيها على المجرة مطرفه، وأصبح ابن بجدتها علما ومعرفة، تطرب الأطيار لنغمة أوتاره، وتنشق مرائر الطير غيرة من لون غياره، وتود المجرة لو كانت له طريقا والشمس جراوة والسماء ملقة، وتتمنى قوس السحاب الملونة لو كانت قوسه والنسر طائره والنجوم بندقه. كم جعل حلل الروض المرقومة بما صرعه مطايره، وكم خرج في زمر والطير فوقهم صافات فصاد بدر تم حين بادره، وكم ضرج في معرك الجو من قتيل ريشه كالزرد الموضون، وكم أرسل البندق فكان سهما ماضيا لأنه من حمأ مسنون.

<<  <   >  >>