وقد وضعت أنا في لك كتابا وسميته جنان الجناس قسمت فيه الجناس إلى ما أمكن تقسيمه، فجاء ما يقارب الستين قسما. فمن أراد تحرير التجنيس في أقسامه فليقف عليه هناك.
[التجنيس المعكوس]
قال: القسم الرابع من المشبه بالتجنيس ويسمى المعكوس ثم أورد عادات السادات سادات العادات، وشيم الأحرار أحرار الشيم وما شابه ذلك وساق أشياء كثيرة له ولغيره.
أقول: ما لهذا النوع دخول في باب التجنيس، وإنما هو من باب رد الأعجاز على الصدور، وهو باب مستقل بذاته. ومن أحسن ما جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم جار الدار أحق بدار الجار.
وقول الأرجاني.
شبت أنا والتحى حبيبي ... حتى برغمي سلوت عنه
ابيضّ ذاك السواد مني ... واسودّ ذاك البياض منه
وقول عفيف الدين التلمساني وفيه زيادة صنعة:
يا بأبي معاطف وأعين ... يصول منها رامح ونابل
فهذه ذوابل نواضر ... وهذه نواظر ذوابل
ألا ترى أن الذوابل والنواضر في الأول، غير الذوابل والنواظر في الثاني. ولو عد ابن الأثير مثل هذا في باب التجنيس لكان ذلك قولا صحيحا. فإن الألفاظ اتفقت والمعاني اختلفت.
ومما قلته أنا في ذلك:
أضاع نسكي عذار مسك ... فكيف تركي لحاظ تركي
تنكى سهام الجفون منه ... ومقلتي لا تزال تبكي
قضى على أدمعي بسفحٍ ... يقضي بها في دمي بسفك
وشكّ قلبي برمح قدٍّ ... قدّ فؤادي بغير شك
فالشك والقد في الأول، غير الشك والقد في الثاني.
ومما نظمته في غير هذا النمط:
قد فاق غصن النقا حبيبي ... وأخجل البدر في التمام
ذاك قوامٌ بلا محيا ... وذا محيّا بلا قوام
يقال: إنه رفعت إلى القاضي الفاضل قصة باسم مؤذنين يستخدمان، أحدهما اسمه مرتضى والآخر زيادة، فكتب عليها: أما زيادة فمرتضى، وأما مرتضى فزيادة. فاستخدم زيادة، وصرف مرتضى. وهذا في غاية الحسن.
[التجنيس المجنب]
قال في القسم الخامس المشبه بالتجنيس ويسمى المجنب. ثم إنه أخذ في الاستشهاد على ذلك بقول القائل.
أبا العباس لا تحسب بأني ... لشيبي من حلى الأشعار عار
فلي طبعٌ كسلسالٍ معينٍ ... زلالٍ من ذرى الأحجار جار
إذا ما أكبت الأدوار زندا ... فلي زندٌ على الأدوار وار
ثم قال: وهذا القسم فيه عندي نظر، لأنه بلزوم ما لا يلزم أولى منه بالتجنيس. وأخذ يعلل ذلك بأشياء تعسف فيها.
أقول: الصحيح أن هذا من أقسام التجنيس. وهو النوع الذي يسمونه بالمزدوج. ولزوم ما لا يلزم باب معقود بذاته لا مدخل له في هذا، ولا لهذا فيه مدخل. فإن اللزوم عبارة عن أن يأتي الشاعر أو الكاتب في القافية قبل الروي بحرف أو أكثر، يلتزم بورود ذلك في كل قافية. كما ورد في قول المعري:
لا تطلبنّ بآلةٍ لك رتبةً ... قلم البليغ بغير حظٍ مغزل
سكن السماكان السماء كلاهما ... هذا له رمحٌ وهذا أعزل
فإن المعري التزم بالزاي قبل الروي وهو اللام. ولو قال مع ذلك: معول وأول وأفضل لصحت القافية ولكن ورود الزاي لزوم ما لا يلزم، وكما تقول: الحمام والغمام والتمام والكمام. أو: البدور والصدور أو الشذور والنذور.
فإن الميم والدال والذال لزوم ما لا يلزم. ويجوز أن تقول مع الحمام، السلام ومع البدور القبور ومع الشذور، الحرور.
وعلى هذا الشرط بنى المعري لزومياته من أولها إلى آخرها. وأما الذي أورده ابن الأثير، فلم يكن كذلك، لأنه قبل الألف الأولى عين، والثانية جيم، والثالثة واو. ففات اللزوم.
ومما اتفق لي من نمط أبي الفتح البستي:
تذكرت عيشا مرّ حلوا بكم فهل ... لأيامنا تلك الذواهب واهب
وما انصرفت آمال نفسي لغيركم ... ولا أنا هذي الرغائب غائب
سأصبر كرها في الهوى غير طائعٍ ... لعلّ زماني بالحبائب آيب
وقلت أيضاً:
بنفسي من إذا ادّكر اكتئابي ... وأني لا أرى الأوزار زارا
يبيت وللتّقى حرس عليه ... ولي فإذا رأى الأسحار حارا