للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

سقتني بعينيها الهوى وسقيتها ... فدبّ دبيب الخمر في كلّ مفصل

وقول عبيد الله من شعراء الحماسة:

شققت القلب ثمّ ذررت فيه ... هواك فليم والتأم الفطور

تغلغل حيث لم يبلغ شرابٌ ... ولا حزنٌ ولم يبلغ سرور

قال: وعلى هذا ورد قول ابن الرومي:

كأني أستدني بك ابن حنيّةٍ ... إذا النّزع أدناه من الصّدر أبعدا

أخذه بعض شعراء الشام وهو ابن قسيم الحموي، فقال

فهو كالسّهم كلّما زدته من ... ك دنوّا بالنّزع زادك بعدا

أقول: وأخذه أيضاً الأرجاني فقال:

فلا تنكروا حقّ المشوق فإننا ... لنا وعليكم أنجم اللّيل تشهد

أرانا سهاما في الهوى ونراكم ... حنايا فما تدنون إلاّ لتبعدوا

وكرره فقال:

قد قوّس القدّ توديعا وقرّبني ... سهما فأبعدني من حيث أدناني

وكرره أيضاً فقال:

كالسّهم راميه يقرّبه ... ولأجل بعدٍ ذلك القرب

وقال:

ما ضمّني يوم الرّحيل هوىً ... بل كان يدنيني ليبعدني

وقال:

والإلف قد عانقني للنّوى ... فالتفّ خدّاي وخدّاه

كأنه رام إلى غايةٍ ... تناول السّهم بيمناه

حتى إذا أدناه من صدره ... أبعده ساعة أدناه

وأخذه كشاجم قبل الأرجاني فقال:

أرى وصالك لا يصفو لآمله ... والهجر يتبعه ركضا على الأثر

كالقوس أقرب سهميها إلى عطفت ... عليه، أبعدها من منزع الوتر

وكرر ابن الرومي هذا المعنى في موضع آخر فقال:

رأيتك بينا أنت جارٌ وصاحبٌ ... إذا بك قد ولّيتنا ثانيا عطفا

وإنّك إذ تحنو حنوّك معقبا ... بعادا لمن بادلته الودّ والعطفا

لكالقوس أحنى ما تكون إذا حنت ... على السّهم أدنى ما تكون له قذفا

وولد ابن باك من هذا معنى آخر فقال:

أصبحت في صولجانه كرةً ... يبعدها قربها من الضّارب

وما أحسن قول ابن المغلس ملغزا فيها:

أراد دنوّها حتّى إذا ما ... دنت منه بكدٍّ أيّ كد

قلاها ثمّ أتبعها بضربٍ ... وبدّل قربها منه ببعد

[بين النثر والنظم]

قال في تفضيل النثر على النظم في آخر الكتاب: إن الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورا متعددة، ذوات معان مختلفة في شعره، واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتي بيت أو ثلاثمائة أو أكثر من ذلك، فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه، بل يجيد في جزء قليل، والكثير من ذلك رديء غير مرضي. والكاتب لا يؤتى من ذلك، بل يطيل في الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر، وتكون مشتملة على ثلاثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة. وهو مجيد في ذلك كله.

وهذا لا نزاع فيه، لأننا رأيناه وقلناه. وعلى هذا فإني وجدت العجم يفضلون العرب في هذه النكتة المشار إليها. فإن شاعرهم يذكر كتابا مصنفا من أوله إلى آخره شعرا، وهو شرح قصص وأحوال، يكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم، كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف شاه نامه وهو ستون ألف بيت من الشعر، يشتمل على تاريخ الفرس، وهو قرآن القوم، وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه، وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها، وعلى أنه لغة العرب بالنسبة اليها كقطرة من بحر.

أقول: قد ختم ابن الأثير رحمه الله تعالى كتابه بهذه النكتة التي مال فيها إلى الشعوبية، وما قال معمر بن المثنى ولا سهل بن هارون، ولا ابن غرسية في رسالته مثل هذا. وقد وجد في أهل اللسان العربي من نظم الكثير أيضاً، وإن عد هو الفردوسي، عددت له مثل ذلك جماعة، منهم من نظم تاريخ المسعودي نظما في غاية الحسن، ومنهم من نظم كتاب كليلة ودمنة في عشرة آلاف بيت ونظمها أبان اللاحقي أيضاً. وأخبرني الشيخ الإمام الحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد الذهبي أن مكي ابن أبي محمد بن محمد بن أبيه الدمشقي عرف بابن الدجاجية، نظم كتاب المهذب قصيدة علي روي الراء سماها البديعة في أحكام الشريعة انتهى. قلت: والمهذب في أربع مجلدات.

<<  <   >  >>