أقول: إذا كان يستميل سمع الطروب، فما في هذا كبير مدح، وذلك أن صيغة فعول مبالغة فيمن يطرب. ولا يقال طروب إلا لمن يميل لأدنى لذة، ويتحرك لأقل نعمة. مثل: أكول وشروب لكثير الأكل والشرب لما يمر به. وإذا كان الذي يميل إلى الطرب ويتكرر ذلك منه، يطرب لهذا الكلام فما في هذا مزية توجب مدحه، ولهذا قيل: المستعد للشيء يكفيه أدنى سبب، وإنما المدح أن يقال: يستميل من لا يرتاح للطرب. كما قال في الثانية: ويستخف وقار القلوب. فإن هذا هو المعهود في المدح. فإن قلت: هذا يرد على البحتري في قوله:
مستميلٌ سمع الطروب المعنّى ... عن أغانيّ معبدٍ وعقيد
قلت: هذا مما يؤيد ما قلته، لأنه قال: يستميل سمع الطروب المعنى عن سماع معبد وعقيد اللذين هما أصل الغناء. وإذا كان يلفت من هو بهذه الصفة عن لذته إلى سماعه، كان ذلك مدحا فهو من باب يستخف الحليم ويصبي الناسك. وما خلص هذا للبحتري إلا بقوله: عن أغاني معبد. ولو قال ابن الأثير: يستميل الطروب عن أغانيه بفصاحته، لما أوردت عليه هذا الإيراد. وهذا الذي قلته هو المعهود في المدح.
ألا ترى قول النابغة الذبياني:
لو أنها عرضت لأشمط راهبٍ ... عبد الإله صرورة متعبد
لرنا لبهجتها وحسن حديثها ... ولخاله رشدا وإن لم يرشد
وقول امرىء القيس:
إلى مثلها يرنو الحليم صبابةً ... إذا ما اسبكرّت بين درع ومجول
وما أحسن قول كشاجم في عوادة، من أبيات:
دارت ملاويه فيه فاختلفت ... مثل اختلاف اليدين شبّكتا
لو حرّكته وراء منهزمٍ ... على بريدٍ لعاج والتفتا
وقلت أنا:
جسّت مثاني عودها بأناملٍ ... عبثت بلبّ الخاشع المتورع
وشدت فلو شاءت عذوبة لفظها ... عطفت عنان البارق المتسرع
وعجبت من ريح الصّبا إذ لم تقف ... طربا ولكن ما لها أذن تعي
وأما قوله: ويرى في الأرض غير لاغب، ما سمعت بمن مدح الكلام الفصيح بمثل هذا، والكلام لا يوصف بإعياء ولا لغوب. ولكن هذا من باب إضافة العقل والدين والجوارح للخمر في الفصل الذي تقدم. أتراه ما علم أن اللغوب من صفات الأجسام ولواحقها عند الحركة وإدمانها، فإن الكلام لا يتعب وإنما التعب لجارحة من تكلم به، والكتاب لا يتعب وإنما الكاتب الذي خطه.
وما أحسن قول القائل:
إذا أخذ القرطاس أودع طرسه ... خميلة زهر أو قلادة جوهر
حمى كلّ فكرٍ عن عراك رويّه ... وحطّ عن الأقلام ثقل التفكر
فإن كان ابن الأثير أراد الكاتب الذي صدر عنه هذا الكتاب الذي وصفه، فليس في سياق الكلام ما يدل عليه.
وقد عاب الوحيد على أبي الطيب قوله:
كلّ السيوف إذا طال الضراب بها ... يمسّها غير سيف الدولة السأم
وقال: السأم لا يلحق السيوف إلا أن يكون جاء به استعارة في موضع كلال الحد قال: ولما وقفت عليه قلت: سبحان من أعطى سيدنا فلم يبخل، وخصه بنبوة البيان إلا أنه لم يرسل، ولولا أن الوحي قد سد بابه لقيل هذا كتاب منزل، ولقد خار الله لأولي الفصاحة إذ لم يحيوا إلى عصره، ولم يبلوا بداء الحسد الذي يصليهم بتوقد جمره، ولئن سلموا من ذلك فما سلمت أقوالهم من أقواله التي محتها محو المداد، وقد كانت باقية من بعده فلما أتى صارت كما صاروا إلى الألحاد.
أقول: في هذا من اساءة الأدب ما فيه، وللإنسان عن مثل هذا المدح مندوحة تخرجه من هذه المضائق.
وقوله: وخصه بنبوة البيان إلا أنه لم يرسل مأخوذ من قول أبي العلاء المعري:
لولا انقطاع الوحي بعد محمدٍ ... قلنا محمد من أبيه بديل
هو مثله في الفضل إلا أنه ... لم يأته برسالةٍ جبريل
وقد كفر قائل مثل هذا.
قال: وإن لكلمه طعما يعرف مذاقه من بين الكلام، وخفة الأرواح معلومة من بين ثقل الأجسام، فلو لم يعرف بطعمه عرف بوسمه، والصبح لا يتمارى في إسفاره، ولا يفتقر إلى دليل على أنواره. وقد علم أن العرق يعرف بغصنه، وأن القول يعرف بلحنه.
أقول: قوله: وإن لكلمه طعما يعرف مذاقه من بين الكلام، ما أحسن ما أجاب به ابن عميرة ابن الأبار عن كتاب بعثه إليه، فجاء من جملة الجواب: