وشبه الشيء منجذبٌ إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطّغام
ثم يردفه بقوله:
ولو لم يعل إلا ذو محلٍّ ... تعالى الجيش وانحطّ القتام
وكما قال:
أذمّ إلى هذا الزمان أهيله ... فأعلمهم فدمٌ وأحزمهم وغد
ثم يردفهما بقوله:
ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى ... عدوّا له ما من صداقته بدّ
قيل إنه لما ادعى النبوة قيل له: ما معجزك؟ فقال: قولي ومن نكد الدنيا.. البيت وكما قال:
ستبكي شجوها فرسي ومهري ... صفائح دمعها ماء الجسوم
ثم يقول بعد هذا:
وكم من عائبٍ قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السّقيم
وكما قال:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا ... وعناهم من شأنه ما عنانا
ثم يقول:
وإذا لم يكن من الموت بدٌ ... فمن العجز أن تكون جبانا
وكما قال:
نتاج رأيك في وقتٍ على عجلٍ ... كلفظ حرفٍ وعاه سامعٌ فهم
ثم يقول:
صدمتهم بخميس أنت غرته ... وسمهريّته في وجهه غمم
فكان أثبت ما فيه جسومهم ... يسقطن حولك والأرواح تنهزم
وكما قال:
وإنما يبلغ الإنسان طاقته ... ما كلّ ماشيةٍ بالرجل شملال
ثم يقول:
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ... ما قاته، وفضول العيش أشغال
وهذا البيت فيه ثلاثة أمثال.
وكما قال:
عجبت لمن له قدٌ وحدٌ ... وينبو نبوة القصم الكهام
ثم يقول:
ولم أر في عيوب الناس شيئاً ... كنقص القادرين على التمام
وكما قال:
ذريني أنل ما لا ينال من العلا ... فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
ثم يقول:
تريدين لقيان المعالي رخيصةً ... ولا بدّ دون الشّهد من إبر النحل
وكما قال:
أبا شجاعٍ بفارسٍ عضد الد ... ولة فنّاخسرو شهنشاها
أساميا لم تزده معرفةً ... وإنما لذةً ذكرناها
فهذا يسير من كثير، وقليل من غزير. ولكن هذا القدر كاف في الدلالة على ماله من الجيد، فانظر إلى انحطاطه وارتفاعه. ولكن أين ارتفاعه. وهذان الرجلان قد سار ذكرهما وثبت أمرهما وأسكرت الألباب خمرهما.
وفي تعبٍ من يحسد الشمس ضوءها ... ويزعم أن يأتي لها بضريب
فالقاضي الفاضل رحمه الله انفرد بالترسل، وانفرد المتنبي بالشعر مع مالهما من الانحطاط، ولكن انحطاط المتنبي أوضع وأشنع.
ولو أن الناس إذا رأوا جوادا بخل في وقت، أو شجاعا فر في وقت، أو صانعا ماهرا قصر في وقت، يرمونهم بالعيب ويطعنون عليهم ولا يعدون لهم إحسانا، لما كان في الوجود جواد ولا شجاع ولا صانع ماهر ولا خطيب بليغ ولا شاعر مجيد. وإنما العبرة بالأغلب والأكثر، والقليل معفو عنه، لأن العصمة لا تشترط إلا للمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه.
وللمعري بيتان يفضل فيهما أبا الطيب على أبي تمام وهما:
ما حبيبٌ إلا أديبٌ ولكن ... ما أراه يقارب المتنبي
ذا المعاني الغرائب اللائي أسهرن ... جفوني دهرا وتيّمن قلبي
ولما فرغ أبو العلاء من تصنيف كتاب اللامع العزيزي في شرح ديوان أبي الطيب وقرىء عليه، أخذ الجماعة في وصفه. فقال: كأنما نظر المتنبي إلي بلحظ الغيب إذ يقول:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم
وقيل: إن المعري كان إذا خلا ممن لا يثق إليه قال: ناولوني معجز أحمد، يعني ديوان أبي الطيب وإذا كان في غير الخلوة يقول: الشاعر.
وهذا شبيه بما يحكى عن أفلاطون من أنه كان إذا جلس للناس، واستدعي منه الكلام قال: اصبروا حتى يحضر الناس، أو ربما قال: حتى يحضر العقل. يريد أرسطو. وكان يسمي ديوان أبي تمام ذكرى حبيب ويسمي ديوان البحتري عبث الوليد. وهذا يحتمل المدح والذم. أما المدح فلأن عبث الوليد حلو على القلوب. وأما الذم فلأن العبث من حيث هو مذموم عند العقلاء.
ويسمي ديوان ابن هانىء المغربي رحى تطحن قرونا ولعمري إن أبا العلاء المعري ما أنصف ابن هانىء في هذه التسمية. أليس هو الذي يقول في القصيدة الرائية: