فلا خاشعٌ للنَّكبِ منهُ كآبةً ... ولا جازعٌ إنْ صرفُ دهرٍ تغيَّرا
وقدْ أبقتِ الأيَّامُ منِّي حفيظةً ... على جلِّ ما لاقيتُ واسماً مشهَّرا
فلستُ إذا الضَّرَّاءُ نابتْ بجُبَّأ ... ولا قصفٍ إنْ كانَ دهرٌ تنكَّرا
وقال هدبة أيضاً وهو في سجن المدينة:
أبى القلبُ إلاَّ أُمَّ عمرٍو وما أرى ... نواها وإنْ طالَ التَّذكُّرُ تسعفُ
وجرَّتْ صروفُ الدَّهرِ حتَّى تقطَّعتْ ... وقد يخلقُ النَّأيُ الوصالَ فيضعفُ
وقدْ كنتُ لا حبٌّ كحبِّي مضمرٌ ... يعدُّ ولا إلفٌ كما كنتُ آلفُ
منَ البيضِ لا يسلي الهمومَ طلابُها ... فهلْ للصِّبا إذْ جاوزَ الهمَّ موقفُ
رداحٌ كأنَّ المرطَ منها برملةٍ ... هيامٍ وما ضمَّ الوشاحانِ أهيفُ
أسيلةُ مجرى الدَّمعِ يرضى بوصلِها ... مطالبُها ذو النِّيقةِ المتطرِّفُ
كأنَّ ثناياها وبردَ لثاتِها ... بُعيدَ الكرى يجري عليهنَّ قرقفُ
شمولٌ كأنَّ المسكَ خالطَ ريحها ... وضمِّنها جونُ المناكبِ أكلفُ
تشابُ بماءِ المزنِ في ظلِّ صخرةٍ ... تقيها منَ الأقذاءِ نكباءُ حرجفُ
وما مغزلٌ أدماءُ تُضحي أنيقةً ... بأسفلَ وادٍ سيلهُ متعطِّفُ
بأحسنَ منها يومَ قامتْ وعينُها ... بعبرتِها منْ لوعةِ البينِ تذرفُ
وليلٍ لألقى أمَّ عمرٍو سرَيتهُ ... يهابُ سراهُ المدلجُ المتعسِّفُ
ومنشقِّ أعطافِ القميصِ كأنَّهُ ... صقيلٌ بدا منْ خلَّةِ الجفنِ مرهفُ
نصبتُ وقدْ لذَّ الرُّقادُ بعينهِ ... لذكراك والحبُّ المتيَّمُ يشعفُ
وداويَّةٍ قفرٍ يحارُ بها القطا ... بها منْ رذايا العيسِ حسرَى وزحَّفُ
عسفتُ بُعيدَ النَّومِ حتَّى تقطَّعتْ ... تنائفُها والكورُ بالكورِ مردفُ
إذا نفنفٌ بادي المياهِ قطعنهُ ... نواشطَ بالموماةِ أعرضَ نفنفُ
بعيدٌ كأنَّ الآلَ فيهِ إذا جرى ... على مستوى الحزَّانِ ريطٌ مفوَّفُ
لعمري لئنْ أمسيتُ في السِّجنِ عانياً ... عليَّ رقيبٌ حارسٌ متقوِّفُ
إذا سبَّني أغضيتُ بعدَ حميَّةٍ ... وقدْ يصبرُ المرءُ الكريمُ فيعرفُ
لقدْ كنتُ صعباً ما ترامُ مقادَتي ... إذا معشرٌ سِيموا الهوانَ فأخنفوا
وقال هدبة أيضاً في السجن:
أتنكرُ رسمَ الدّارِ أمْ أنتَ عارفُ ... ألا لا بلِ العرفانُ فالدَّمعُ ذارفُ
رشاشاً كما انهلَّتْ شعيبٌ أسافها ... عنيفٌ بخرزِ السَّيرِ أو متعانفُ
بمنخرقِ التَّقعينِ غيَّر رسمها ... مرابعُ مرَّتْ بعدنا ومصايفُ
كلفتُ بها لا حبَّ من كان قبلها ... وكلُّ محبٍّ لا محالةَ آلفُ
إذِ النَّاسُ ناسٌ والبلادُ بغرَّةٍ ... وإذ أمُّ عمَّارٍ صديقٌ مساعفُ
وإذ نحنُ أمّا من مشى بمودَّةٍ ... فنرضى وأمّا من مشى فنخالفُ
إذا نزواتُ الحبِّ أحدثنَ بيننا ... عتاباً تراضينا وعادَ العواطفُ
وكلُّ حديثِ النَّفسِ ما لم ألاقها ... رجيعٌ ومما حدَّثتكَ طرائفُ
وإنِّي لأخلي للفتاة فراشها ... وأُكثرُ هجرَ البيتِ والقلبُ آلفُ
حذارَ الرَّدى أو خشيةً أن تجرَّني ... إلى موبقٍ أرمي به أو أقاذفُ
وإني بما بينَ الضُّلوعِ من امرئٍ ... إذا ما تنازعنا الحديثَ لعارفُ
ذكرتُ هواها ذكرةً فكأنَّما ... أصابَ بها إنسانَ عينيَّ طارفُ
ولم ترَ عيني مثلَ سربٍ رأيتهُ ... خرجنَ علينا من زقاقِ ابنِ واقفُ
خرجنَ بأعناقِ الظِّباءِ وأعينِ ال ... جآذرِ وارتجَّتْ بهنَّ الرَّوادفُ
طلعنَ علينا بينَ بكرٍ غريرةٍ ... وبينَ عوانٍ كالغمامةِ ناصفُ
خرجنَ علينا لا غُشينَ بهوبةٍ ... ولا وشوشيَّاتُ الحجالِ الزَّعانفُ
تضمَّخنَ بالجاديِّ حتَّى كأنَّما ... الأنوفُ إذا استعرضتهنَّ رواعفُ
كشفنَ شنوفاً عن شنوفٍ وأعرضتْ ... خدودٌ ومالتْ بالفروعِ السَّوالفُ
يدافعنَ أفخاذاً لهنَّ كأنَّها ... من البُدنِ أفخاذُ الهجانِ العلائفُ
عليهنَّ من صنعِ المدينةِ حليةٌ ... جمانٌ كأعناقِ الدَّبا ورفارفُ