التقصير، وأقبل ينظر فيه ليلاً ونهاراً، ولا يمل منه ولا يفتر، وكان يغدو ويروح على البرامكة، فكأنه على الرضف حتى يرجع إلى الكتاب وينظر فيه، إلى أن حفظ نصف الكتاب. وكانت تحته بنت عم له، وكانت سرية نبيلة موسرة جميلة، وكانت تهوى ابن عمها وتحبه، فاشترى الليث جارية نفيسة فائقة الجمال، بثمن جزيل، فأقعدها في منزل صديق له يتسرى بها، فبلغ ذلك ابنة عمه، فوجدت من ذلك أشد وجد، وحزنت وقالت: والله لأغيظنه ولا أتقي الغاية. وقالت: إن غظته في المال فهو لا يبالي به ولا يكترث له، ولكني أراه مشغوفاً بهذا الكتاب، وقد هجر كل لهو ولذة، وأقبل على النظر فيه، والله لأفجعنه به. ثم عمدت إلى الكتاب بأسره فأحرقته، فلما كان بالعشي، وراح الليث من دار البرامكة، ودخل المنزل، لم يكن له هم إلا الكتاب، فصاح بالغلام أن يحمله إليه، فلم يوجد الكتاب، وكاد يطير طيشاً، وظن أنه سرق، فجمع غلمانه وتهددهم. فقال بعضهم: يا سيدنا أخذته الحرة، فبادر إليها ليترضاها ويسترجع الكتاب، وقال لها: ردي الكتاب والجارية لك، وقد حرمتها على نفسي، فأخذت بيده، وأدخلته البيت الذي أحرقته فيه، فلما نظر إلى رماده وصح عنده أنه احترق، سقط في يديه. وظن أنه أصيب بمال عظيم أو يولد أو أعظم منه، وكان قد حفظ نصف الكتاب، ويبقى عليه نصفه - وقد مات الخليل - فطلبه في الدنيا كلها فأعجزه ذلك، ولم تكن النسخة وقعت إلى أحد، فاستدرك النصف من حفظه وجمع على النصف الباقي علماء أهل زمانه. فقالوا: ما تروم؟ قال: مثلوا عليه، فمثلوا، فلم يلحقوه، ولا شقوا غباره. فأنت ترى ما في أيدي الناس من ذلك، فإذا ما تأملته تراه