ولا منافاة بين قول أسامة رضي الله عنه في الحديث الأول:"ركع قبل البيت"، وبين قوله في الحديث الثاني:"وصلى خلف المقام ركعتين"، لأن المقام كان في وجه الكعبة، على ما ذكر ابن عقبة في "مغازيه" وغيره، ويكون قوله: صلى خلف المقام: مفسرا لقوله: ركع قبل البيت لينتفي التعارض بين حديثيه، وهذا أولى من حمل قوله على أنه صلى خلف المقام في موضعه، لأنه إذا حمل على ذلك يفهم منه التناقض بين الحديثين، والله أعلم.
وإذا كان حديث ابن السائب يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عند الكعبة في يوم فتح مكة وقال:"هذه القبلة"، واقتضى ذلك أيضا حديث أسامة رضي الله عنه، ففي ذلك دليل على اتحاد المصلى الذي ذكره أسامة وابن السائب، ويتجه به النظر الذي أشرنا إليه في ما ذكره المحب الطبري، من أن المصلى الذي ذكره أسامة رضي الله عنه غير المصلى الذي ذكره ابن السائب، ولا يقال الحديث الذي استدل به المحب الطبري على المصلى الذي ذكره ابن السائب، غير الحديث الذي ذكره الأزرقي، لأن المحب الطبري قال في "القرى" لما ذكره في المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة: "الثالث: قريبا من الركن الشامي مما يلي الحِجر، عن عبد الله بن السائب أنه كان يقود ابن عباس عند الشقة الثالثة مما يلي الركن الذي يلي الحِجر مما يلي الباب، فيقول له ابن عباس: عند الشقة الثالث: أثبتَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ههنا؟ فيقول: نعم، فيقوم فيصلي، أخرجه أحمد، وأبو داود ... انتهى.
وقوله في هذا الحديث "أثبتَ" هو بنصب التاء لا برفعها، لأنه يلزم على رفعها أن يكون الحدث من رواية ابن السائب عن ابن عباس، ولا يعرف لابن عباس في هذا المعنى حديث، والله أعلم.
وقوله: أثبت بألف، يعني "همزة الاستفهام"، ثم ثاء مثلثة، ثم باء موحدة، ثم تاء مثناة، من الثبات الذي بمعنى التحقيق للشيء، كأنه يقول له: تحققتَ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الموضع المشار إليه؟ فيقول: نعم. والله أعلم.
وإنما لا يقال الحديث الذي استدل به المحب غير الحديث الذي ذكره الأزرقي، لأن الحديث الذي ذكره المحب يقتضي أن ابن عباس رضي الله عنهما سأل ابن السائب عن موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في وجه الكعبة، والحديث الذي ذكره الأزرقي يقتضى إخبار ابن السائب بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة في وجه الكعبة، وأنه رفع يديه، وقال: "هذه القبلة" وبيَّن المصلى بقوله: "عند الطواف"، وذلك لا ينافي إثباته صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عند الشقة الثالثة مقابلة الركن الشامي، لإمكان أن يكون موضع النظر فيه موضع الشقة الثالثة، فعرفه بالوجهين، واختصر في إخباره ابن عباس رضي الله عنه بعض القصة، والله أعلم.