ونقل عن الشافعي أنه بنى بمنى مضربا ينزل فيه أصحابه إذا حجوا، روى عنه ذلك أبو ثور، وهو أحد رواة القديم، وتمسك به بعضهم على جواز البناء بمنى.
وفي العمل به على تقدير صحته عن الشافعي نظر لأمرين: أحدهما: أن الشافعي قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. والحديث الوارد في النهي عن البناء بمنى تقوم به الحجة، لأن الترمذي حسنه، وأبا داود سكت عنه، فهو فى معنى الصحيح لقيام الحجة به على ما هو مقرر في علم الحديث، فالشافعي حينئذ يقول به ويصير ذلك مذهبه وصحبه، ومثل هذا لا ينكر، لأنه وقع للنووي مثله في غير مسألة، ولعله لحظ هذا فيما ذكره من عدم جواز إحياء موات منى ومزدلفة، مع قياسهما على عرفة لمشاركتهما لعرفة في علة الحكم، والله أعلم.
والأمر الثاني: أنه لا ريب في أن الشافعي على تقدير ثبوت بنائه بمنى لم يكن يحجز بناءه على أحد، ولا يأخذ على النزول فيه أجرا، وأن بناءه بمنى لأجل الارتفاق به من جهة الظل وصيانة الأمتعة، وشبه ذلك فلا يقاس عليه من لم يقصد ببنيانه إلا الاختصاص بنزوله وأخذ الأجرة على نزوله، كما هو الغالب من أحوال أهل العصر، وإلحاق من هو بهذه الصفة لمن حسنت نيته عند الشافعي لا يحسن، والله أعلم.
وسمعت قاضي الحرم جمال الدين أبا حامد بن ظهيرة١ أبقاه الله تعالى إن جدي لأمي قاضي مكة أبا الفضل النويري رحمه الله كان ينكر البناء بمنى ويشدد فيه، وينهى أشد النهي ... انتهى بالمعنى.
وأما ما أفتى به الشيخ نجم الدين عبد الرحمن بن يوسف الأصفوني الشافعي مؤلف "مختصر الروضة" من أن منى كغيرها في جواز بيع دورها وإجارتها فإن ذلك غير سديد نقلا ونظرا، وأما النقل فلمخالفته مقتضى الحديث، وكلام النووي، وابن عساكر، والمحب الطبري، وغيرهم، وأما النظر، فلأن أعظم ما يمكن أن يتمسك به في ذلك كون موات الحرم يجوز إحياؤهن ومنى من الحرم، فيملك ما أحيا فيها ويجري فيه أحكام الملك، وهذا لا يستقيم لأن في منى أمرا زائدا يقتضي عدم إلحاقها بموات الحرم، وهو كونها متعبدا ونسكا لعامة المسلمين، فصارت كالمساجد وغيرها من المسبلات، وما هذا شأنه لا اختصاص فيه لأحد إلا بالسبق في النزول لا بالبناء، إذ هو ممتنع فيه، فالبناء بمنى ممتنع حينئذ، ولا يملك، ولا يكون كغيره مما يصح تملكه، ويجري حكم البناء بمنى على حكم البناء بعرفة لمساواتها لعرفة في السبب الذي لأجله امتنع البناء بعرفة على الأصح، فمنى كذلك، والله أعلم.
١ هو محمد بن عبد الله بن ظهيرة قاضي مكة وفقيهها وناظر حرمها وأوقافها والحسبة بها وشيخها في الفتوى والتدريس. ولد سنة ٧٥١ ومات سنة ٨١٧هـ. "لحظ الألحاظ ٢٥٣- ٢٥٥، الضوء اللامع ٨/ ٩٢-٩٥ رقم ١٩٤".