لا كفر فيها ولا ظلما ولا بغيا، لا يبغي فيها أحد إلا أخرجته، فكانت تسمى الناسة، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك. فيقال: ما سميت ببكة إلا لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها:
قال ابن إسحاق: فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي بغزالي الكعبة وبحجر الركن فدفنها في زمزم، وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا فقال عمرو بن الحارث بن مضاض في ذلك وليس بمضاض الأكبر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخير ضاهر
ونحن ولينا البيت من بعد نابت ... بعز فما تخطى لدينا المكاثر
ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا ... فليس لحي غيرنا ثم فاخر
ألم ينكحوا من غير شخص علمته ... فأبناؤها منا ونحن الأصاهر
فإن تنثن الدنيا علينا بحالها ... فإن لها حالا وفيها التشاجر
فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك بين الناس تجري المقادر
أقول إذا نام الخلي ولم أنم ... إذ العرش لا يبعد سهيل وعامر
وبدلت منها أوجها لا أحبها ... قبائل منها حمير وتحابر
وصرنا أحاديث وكنا بغبطة ... كذلك عضتنا السنون الغوابر
فسحت دموع العين تبكي لبلدة ... بها حرم آمن وفيها المشاعر
وتبكي لبيت ليس يؤذي حمامه ... يظل به آمنا وفيه العصافر
وفيه وحوش ولا ترام أنيسة ... إذا أخرجت منه فليس تغادر١
قال ابن هشام: قوله فأبناؤه عن غير إسحاق.
قال ابن إسحاق: وقال عمرو بن الحارث يذكر بكرا، وغبشان، وساكني مكة الذين خلفوا فيها بعدهم:
يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
١ راجع بعض أبيات القصيدة في صفحة ٤٧ من تاريخ القطبي وفي كتاب الأغاني للأصبهاني ١٥/ ١٨، ١٩، وفي أخبار مكة للأزرقي ١م ٩٧- ٩٩، ١/ ١٢٧، ١٢٨. وبعض الأبيات في الروض الأنف ١/ ١٨٣، ومعجم البلدان ٢/ ٢٨٥، والكامل لابن الأثير ٢/ ٤٣، والبداية والنهاية ٢/ ١٨٥، ١٨٦،ومروج الذهب ٢/ ٥٠، وعيون التواريخ ١/ ٤٠.