للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فنعرف بذلك الملابسات التي تم فيها هذا الصلح الذي كان يمثل إحدى مراحل الحوار الدقيق والتداخل المتوازن بين الأوضاع القديمة والأوضاع الجديدة التي شهدتها نهاية العصر الجاهلي, وهو حوار كان لا يمكن أن يتم بهذه الصورة إلا بين سكان المدن، وقد كان الطرفان المتحاوران من سكان المدن. أما الإشارة القرآنية الأخيرة إلى مكة فتلقي، رغم اقتضابها، ضوءًا على جانب أساسي من جوانب الحياة بها, وهو "الإيلاف" أو الاتفاقات التي كان المكيون حريصين على إبرامها مع غيرهم حتى يؤمنوا حركتهم التجارية في "رحلة الشتاء والصيف"، وهي اتفاقات، سواء أكانت داخلية في شبه الجزيرة أم خارجية مع الدول التي تصل إليها القوافل التجارية، يبدو واضحا من هذه الإشارة أنها كانت تعود عليهم بقدر كبير من الاستقرار الذي يتمثل في عاملين رئيسيين هما: الرخاء والأمان١٩.

كذلك هناك الإشارات العديدة إلى يثرب التي اكتسبت بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها اسم المدينة المنورة، وفي هذه الإشارات نرى وصفًا دقيقا ونابضا لعدد من الاتجاهات المعارضة أو المبطنة أو المتأرجحة التي أحاطت بالدعوة الإسلامية الوليدة والتي تعطي صورة تاريخية مجسمة لمجتمع الجاهلية وهو يعيش لحظاته الأخيرة أمام مد جديد. إننا نرى هنا بقايا الطموحات القديمة التي يتشبث بها أصحابها ولا يريدون أن يعترفوا بوضع جديد من شأنه أن يقضي على هذه الطموحات, ومن هنا فهم يعملون الرجوع إلى المدينة


١٩ الصفة الدينية لمكة في سورة آل عمران: ٩٦, وصفها بالأمن، التين: ٣، المعاهدات التجارية وما تعود به من رخاء وأمان، سورة قريش: ١-٤ ويلاحظ في هذا الصدد أن قبيلة قريش عقدت حوالي ٤٦٧م اتفاقات مع الإمبراطور البيزنطي والإمبراطور الفارسي ونجاشي الحبشة وملك حمير اليمني اتفاقات تجارية تسمح لهم بتسيير قوافلهم إلى هذه المناطق مما جعل في يدهم زعامة أغلب الجزيرة في مجال التجارة، ومن ثم عاد عليهم بكثير من الرخاء. عن صلح الحديبية, الفتح: ١٨، ٢٤. عن وضع مدينة قريش كمعقد للخطوط التجارية راجع ملحق الخرائط: خريطة ٦.

<<  <   >  >>