وقد تعرض في المجموعة الأولى من هذه الأدلة إلى الطرق التي يفترض أن الشعر الجاهلي انتقل من خلالها إلى علماء العرب من الإخباريين والرواة في القرنين الثاني والثالث للهجرة، كما تعرض لهؤلاء الإخباريين والرواة أنفسهم. ففيما يخص طرق انتقال الشعر الجاهلي يذكر أن هذا لا يكون إلا بالكتابة أو بالرواية. أما الكتابة فهو يشك فيها, فالقرآن الكريم يذكر أن الجاهليين لم يكن لهم كتاب "سماوي" يقرءونه كما كان الحال عند اليهود والنصارى، ولو كان الشعر الجاهلي مكتوبا لكان لهم كتاب أو أكثر من الكتب السماوية. وأما الرواية فهناك أكثر من سبب يؤدي إلى الشك فيها فالشعر الجاهلي فيه عدد كبير من القصائد الطويلة, ومثل هذه القصائد تفترض وجود رواة محترفين حتى يستوعبوها, ويعوها في ذاكرتهم وينقلها جيل منهم إلى الجيل الذي يليه -وليس هناك ما يثبت وجود هؤلاء الرواة المحترفين. كذلك فإن موقف القرآن الكريم الذي اتسم بالقسوة على الشعراء واتهام أتباعهم بالغواية واتهامهم هم أنفسهم بالكذب من حيث إنهم يقولون ما لا يفعلون -كل هذا يدعو إلى نسيان الشعر الجاهلي حتى إذا افترضنا وجود مثل هذا الشعر. وأخيرًا فإن الشعر الجاهلي "المفترض في رأي مارجوليوث" يخلد الروح القبلية بما يضمه من قصائد تفتخر فيها القبائل بانتصاراتها على غيرها، ومن ثَمَّ فإن الإسلام الذي كان يدعو إلى الوحدة ويعمل على تحقيقها بكافة الوسائل لا يمكن أن يشجع التغني بهذا الشعر أو العمل على إبقائه متداولًا في المجتمع الإسلامي الأول. وهذا سبب آخر يدعو إلى نسيانه أو الإعراض عنه٥.
٥ Margoliouth: المرجع ذاته، صفحات ٤٢٣-٤٢٦. الآيات القرآنية التي يستشهد بها على عدم معرفة الجاهليين بالكتابة، يستنتجها من سورة القلم: ٣٧ و٤٧، عن عدم نزول كتب سماوية على الجاهليين مثل كتب اليهود والنصارى، سورة السجدة: ٣٠، القصص: ٤٦، الأنعام: ١٥٦، عن القسوة في القرآن الكريم على الشعراء، سورة الشعراء: ٢٢٤، الصافات: ٣٦.