المستمرة رعيا أو تجارة، ثم تتمثل من جهة ثالثة في الطبيعة الصحراوية الغالبة على شبه الجزيرة والتي جعلتها أو جعلت القسم الأكبر منها بمنأى عن أية أطماع جادة من جانب القوى الدولية، ومن ثم أتاحت الفرصة لانتشار العقيدة الجديدة وقيام دولة موحدة في شبه الجزيرة، الأمر الذي يشكل مقدمة مطلوبة تاريخيًّا لبداية الدور الحضاري العربي.
وفي هذا المجال فإن شبه الجزيرة العربية كانت تخترقها الخطوط التجارية البرية اتجاهًا نحو الخليج ووادي الرافدين والمنطقة السورية. ومعنى هذا أن الاتصال كان دائما بين السكان الذين يقطنون كل أقسام شبه الجزيرة تقريبا. فإذا أضفنا إلى هذا حياة الرعي التي كانت تفرض على أعداد كبيرة من السكان أن يتنقلوا بشكل دائم أو موسمي سعيًا وراء الكلأ, وعددًا من الهجرات الداخلية التي قد تترتب على هذا "أو على غيره من الأسباب" لأمكن أن نتصور أقسام شبه جزيرة العرب في حالة اتصال مستمر فيما بينها. وهو أمر يؤدي بمرور الوقت إلى قدر غير قليل من التقارب بل التجانس فيما بين سكان هذه الأقسام في أكثر من جانب من جوانب حياتهم.
وقد أدى هذا التجانس فعلا إلى ظهور بوادر ملموسة للشخصية أو الهوية الجماعية للعرب رغم التفتت السياسي لشبه الجزيرة في صورة قبائل أو تجمعات قبائل أو إمارات أو دول. ونحن نلمس بوادر هذه الشخصية العربية ابتداء من أواسط القرن التاسع ق. م. في عدة نصوص من سجلات الملوك الآشوريين تصف عددًا من الشخصيات التي احتك بها ملوك دولة آشور بأنهم "عرب" أو أنهم ملوك أو ملكات على "بلاد العرب" -بغض النظر عن الامتداد المكاني أو الشمول الذي تعنيه "صفة بلاد العرب" في هذه السجلات- وهو وصف يشير إلى أن الهوية العربية بدأت تحل، على الأقل في المعاملات الخارجية, محل الهوية العشائرية أو القبلية. كذلك نجد هذه الصفة "العربية" سواء