في وسط الصحراء بين الحيرة وسورية، ومثل الدير، الذي أقامته إحدى أميرات هذه الإمارة وهي هند، أم عمرو بن هند، ومثل انتشار قدر من الحياة الثقافية في الحيرة. كما يدل على هذا الاستقرار كذلك ما وصل إلينا عن حياة البذخ التي كان يمكن للقصر أن يمارسها, كما تشهد على ذلك إشارات إلى توافد مغنين وموسيقيين من الرجال والنساء، سواء في ذلك الذين وفدوا من مكة أو البابليون أو اليونان.
ولكن هذا الاستقرار كان مرتبطًا دائمًا بإرادة الدولة الكبيرة، الإمبراطورية الفارسية، التي كان منطلقها الأساسي هو مصلحتها إزاء الصراع الكبير بينها وبين الإمبراطورية البيزنطية، ومدى ثقتها في ولاء الأمراء اللخميين إزاء هذا الهدف. وهكذا فرغم ظروف التخلخل الذي كانت تمر به الإمبراطورية من حين لآخر حول مسألة العرش -وهي ظروف أتاحت الفرصة لبعض حكام إمارة اللخميين للتدخل في مناسبة واحدة على الأقل في تحديد الشخص الذي يلي العرش "كما حدث أيام المنذر الأول ٤١٨-٤٦٢م"- إلا أن الوضع كان يتغير تماما إذا أحس الأباطرة الفرس بشيء من الشك في ولاء الأمراء اللخميين، وقد حدث هذا بعد حكم النعمان الثالث أو النعمان أبي قابوس بن المنذر "٥٨٠-٦٠٢م" إذ نجد الإمبراطور الفارسي يعين إلى جانب الأمير العربي، وهو النعمان بن قبيسة الطائي "٦٠٢-٦١١م" مقيما فارسيا يمسك في يده بمقاليد الحكومة وهكذا تحول الأمراء العرب في المنطقة إلى حكام بلا سلطة، وظل الأمر كذلك حتى الفتوح الإسلامية حين حصل خالد بن الوليد على استسلام الحيرة في ٦٣٣م٨.
وأصل الآن إلى المثال الأخير لهذا النوع الثاني من التكوينات السياسية التي عرفتها شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، وهو الإمارات أو الممالك الصغيرة، وهذا المثال هو مملكة كندة التي قامت في المنطقة الوسطى من